TOP

جريدة المدى > عام > يوميات في حب بغداد

يوميات في حب بغداد

نشر في: 4 يناير, 2022: 11:11 م

لطفية الدليمي

القسم الثالث

إنه قلبي يخفق كطائر جريح

2003 - 2004

قلبي الذي يحدس أبعد ممّا يدّعي العقل كان يرتعش وأنا أحثّه على الثبات وتحفيز الإرادة:

- استنهض قوتك لاترتعب، لا تبكِ، اصمد، اغتذِ على الأحلام بعيدة المنال، تسلح بالرؤى واسترجع مجازفات الصبا في بساتين بهرز وعلى ضفاف الأنهار.

هناك كان نهر ديالى يناديني، أهرعُ إليه فيعانقني أنين الصفصاف وأغاني الغجر، تستنجد بي شجرة السدر حين احتضار أوراقها وأنا أطارد القنافذ وجِراء الثعالب وأعايش الحياة والموت كل آن وسط الطبيعة، لا تنصِتْ ياقلبي إلى نحيبي أنا المرأة الشجاعة التي دجنتها المدينة فشحبت روحها، تذكّرْ أنك لست قلب المرأة الخوّافة ؛ بل قلب تلك الفتاة البرّية التي لطالما غامرَتْ بين النخل والحقول والجداول ونبات العلّيق وأعشاش اللقالق والزوارق،وصحبت جدتها راوية الحكايات إلى البراري وآثار أشنونا السومرية. لا تخشَ الموت فقد عايشتَهُ طويلاً.

يكتب نيكوس كازانتزاكيس في كتابه “ الحديقة الصخرية ”:

«احفرْ عميقاً أكثر. ما الذي تراه؟ لاأرى شيئاً، ليل ساكن كثيف كالموت، لا بدّ أنه الموت. احفر عميقاً أكثر، وأكثر..... آه، لا أستطيع اختراق الحاجز المظلم، أسمع أصواتاً وبكاء، أسمعُ خفق أجنحة على الشاطئ الآخر، لاتبكِ، لاتبكِ، إنها ليست على الشاطئ الآخر. الأصوات والأجنحة والبكاء هي قلبك أنت..............”

أجل، إنه قلبي الذي يخفق كطائر وحيد، أتعثرُ برعبي وتلاحقني أصوات الموت الفضّاحة، أفكر بسذاجة الأمل وأسى القنوط، في الطريق ثمة أناسٌ يهلّلون لخلاص لم تصنعه أيديهم، ويحتفلون بخراب البلاد ووفرة الموت، بينما يهرب الزمن ويتلاشى بين أكداس الرماد وركام المنازل المدكوكة، ينحدر التاريخ إلى الهاوية وتطحنه ماكنة الحرب لتعيد تشكيله وهي تجبله بالدم والجثث، والكل يمشي مسرنماً في الدخان.

وحدي أهيم في طرقات مدينتي، أردد أغنية حزينة في مقام الحجاز عن بغداد التي أحب، وحولي مايشبه الجنون الجماعي، الغرائز انفلتت وحشية مهووسة بالثأر من نفسها ومؤسسات البلاد، كأنها القيامة ونهاية الزمان، الجموع تتصادم محملة بالغنائم وهي تتنازع أسلاب الوطن .

وحدي أحدق في السماء وأفرغ قلبي من أهواء الحياة، أغدو فراغاً تمرُّ عبره الأصواتُ ووهجاتُ اللهب، حريق شبّ في المخازن الحكومية التي داهمها السلابون في الجهة المقابلة لبيتي، لا أدري إلى أي الجهات أمضي، ومن جسدي تتناثر الأحلام الميتة والرؤى وصور الضحايا وتاريخ المدينة الدموي وقليل من ذكريات حلوة غشاها الرماد.

صباح اليوم التالي وجدتُ امرأة تحتمي من الرعب والنار وراء حاوية قمامة وقد تناثرت شظايا الزجاج حولها وهي تحدق بالمنزل المحترق وتصرخ من هلع: كلهم كانوا هنا، ذهبت لأشتري الخبز لهم، كلهم اندفنوا تحت الرماد والتراب ابني وزوجته والأطفال، سمعتهم يستغيثون ولامن أحد ، ناديت وصرختُ وماسمعني أحد.

لمستُ رأسها المربوط بوشاح أسود ملطخ بالدم، قلت أصحبها لبيتي، أسعفها وأطعمها وأهديء من روعها؛ لكنها تشبثت بالمكان وهي تولول: لا، لا، لا، لن أتركهم، كلهم هنا لن أتركهم وحدهم، لن أتركهم دعيني أموت معهم.

كل شيء كان يتهاوى حيث يعاد تشكيل وجه الخراب القديم بطريقة مختلفة، كان الموت يضحك جذلاً وهو يلتهم الأجساد والمباني والنهود وجدائل الشعر والأصابع المختمة بمحابس العرس وأقدام الرضع الصغيرة المحترقة ورسائل الحب التي تهاوت من حقيبة فتاة باغتتها رصاصة، دموية الحاكم ألقت بالبلاد بين شدقي التنين.

* * * * *

وحدي أيضا، أعبرُ جسر الجمهورية إلى ساحـة التحرير في سيارة أجرة، شجر ناعس تحت غبار عاصفة رملية، نصْب الحرية مكبلٌ برائحة الرصاص وبخار الموت، الكتل البرونزية المعلقة كالأضاحي فوق النصب تنز دموعاً ورملاً أحمر، الحرية حزينة كمراهقة فقدت بوصلة الجسد في دوار التفتح، في جبين الحرية آثار رصاص أطلقه عليها الانقلابيون في شباط 1963 عندما أرعبهم إسمها فلاحقوها في كل جهات العراق. وظلت مشردة لا أحد يفقه ماهيتها ولاأحد يحميها من جنون عشاقها وكارهيها، وعْـدُ الحرية بلغ عتباتنا فإذا هو كصفقة مختلة، كشراء كثبان رملية في ليلة العاصفة.

اقتنع سائق التاكسي أن يجازف بعد أن أغريته بمضاعفة الأجرة لأشهد مايجري في مدينتنا، نجتاز عدداً من نقاط التفتيش التي تستوقفنا بإطلاق الرصاص من بنادق الكلاشنيكوف، قد تصيبنا أنا والسائق رصاصات عشوائية لحظة وقوفنا، السائق يهمهم: تورطنا يا أختي، ما كان لي أن أعبر إلى جانب الرصافة، ورطتِني يا بنت الناس، لو احترقت سيارتي من يعوضني، من يعيل أسرتي؟

المدينة التي اختنقت طويلاً بدماء ضحايا الحروب وكتمت أنفاسها قبضة فولاذية عنيفة طوال عقود، حلمت مثل كل مدن العالم أن تكون بغداد أخرى تحتفي بالحياة والفن، لكنها أفاقت على كوابيس ابتكروها لها وحدها.

تحت نصب الحرية تركع فتيات يافعات يبيعهن النخاسون، صبايا مخطوفات حجبوا وجوههن بالأوشحة وأحاط بهن ملثمون مسلحون، يزايد عليهن رجالٌ بأثواب ناصعة وضمائر عفنة، يصحبون بعضهن في سيارات دفع رباعي مظللة النوافذ إلى المجهول، يعبرون بهنّ الحدود إلى متاهة عبودية سوداء.

الصفصاف الباكي ينحني على صورة المأساة ويذرف خضرته على المارة.

امرأة مجللة بالسواد تطرق بابي صباحا وهي تنتحب: خطفوا ابنتي منذ أربعة أيام ولامِنْ أحد يعينني على البلوى مامن أحد يساندني. أقودها إلى مركز الشرطة القريب قرب المسجد. تجلس على عتبة المركز وتنتحب وتخمش وجهها وهي تروي محنتها باختطاف الإبنة الوحيدة اليتيمة.

* * * * *

صوت طائر الشقراق طائر إينانا كسير الجناح - ينوح في المشهد مردداً مرثيات إينانا للبلاد التي حلمت بالفردوس فإذا بها تغوص في وحل البدايات النتنة وتغرق في حضيض الجحيم.

* * * * *

تصدّعت ممرات بيتي وانخسفت بعد سلسلة انفجارات في شارعنا، نتأت البلاطات وحدثت صدوع في أرضية الغرف والجدران، أتعثر بالصدوع طوال الوقت وسط الظلمات، الهياج يعمُّ كل شيء،ارهابيو القاعدة يحتلون شارعنا بعد أن كانوا مختبئين في المسجد القريب، قطعان الوحوش المخبولة تقتل امرأة في الحي القريب بعد اغتصابها وتلقي بالجثة على الرصيف.

ذخيرتي من الشموع تكاد تنفد، جسدي يرتعش في رجة الهلع، أتأملُ نفسي في المرآة فلاأعرفني: امرأة غريبة تسكن الجسد الحزين، لاأتفجع ولا أبكي، الروح وحدها تنشج، لا أنتحب بل أكتب مقالة عن نصب الحرية وهذر المنجّمين، عن ذلك المنجّم الذي أعلن في إحدى الصحف: أنّ نصب الحرية عملٌ من السحر الأسود وهو سبب الكوارث التي ألمّت ببغداد، ويدعو إلى إزالة النصب ؛ فقد اكتشف في عمى البصيرة - وياللمهزلة - أن الفنان جواد سليم هو سبب المأساة العراقية وليس استبداد السلطة ودموية الحاكم.

نور شمعة هزيل يرعش الظلال على الستائر، وحدي، لكن ظلي يتكاثر على الجدران وجسدي يختض وأنا أسمع إطلاق الرصاص أمام البيت. هل سيشطب القاتل جسدي المنتحب من لائحة الأحياء هذا المساء أو ضحى يوم خارج التقويم؟

في السكون المريب بعد الانفجارات أنصت لنحيب الجسد، أنصت للخوف يتردد مثل لازمة موسيقية تطفح مع الأنفاس.

أجسادنا، ما أجسادنا؟ هلامٌ يتشكل ويتجمد في عتمة الغرف، والروح ضوء كتيم محبوس في الزوايا، أجسادنا مجبولة من نفط ودم، ماعادت الحياة تليق بنا أو نليق بها، مثلَ البلد إلا قليلاً فنحن لانشبه إلا البلاد التي اكتمل جنونها، البلاد التي ليست لنا، البلاد التي ليست لأحد.

يرن جهاز تلفون الثريا، الشيء الوحيد الذي يربطني بالعالم، أهرع إلى الحديقة لعلّني أستطيع التقاط المكالمة في الفضاء المفتوح عند شجرة النارنج، ابني يهاتفني من مدينة بيرن: ماما، ماكان لك أن تبقي وحيدة في الجحيم، كفّي عن عنادك واخرجي من بغداد.

- لاتخف يا بني، لا يزال الموت بمنأى عن خطوتي.

بعد المكالمة أنتحب وحدي، كنت أكذب، كنت أكابر أمام نفسي، أمام وفرة الموت، أمام فكرة القاتل المتربص وأدّعي بسالة لاأملكها،أرتعش هلعاً وأخاف الموت كجميع الخائفين. علام أبقى هنا وأقترف النكران؟، أأخادعُ نفسي الأمارة بشجاعة زائفة؟

أضع في حقيبة صغيرة نسخة واحدة من جميع كتبي المنشورة وبضع مسودات، سأحملها معي حين الفرار من مدينة الموت.

النفط يتفصّدُ من أجسادنا

أولَ الضحى، يدفعني الخوف والأمل على الخروج من زنزانة البيت أقف في صف طويل تحت عاصفة ترابية، اختنق في نوبة الربو وأقاوم ببعض نفثات من بخاخ فنتولين، أصمد أمام محطة الوقود لعلّني أحصل على خمسة ليترات من النفط الثمين أو البنزين لأشغل مولدة الكهرباء الصغيرة وأحظى ببعض نور.

لاأعثر على خبز لدى باعة الأرصفة، المخابز مغلقة، حيواتنا يلتهمها الوحش المولود من يأسنا وجنون القتلة.

أشباح النساء المرعوبات تركض محجوبة بالعباءات والشالات السود، يا للمفارقة !! بعض الصبيان يلعبون الكرة في الشوارع المقفرة، وإرهابيو القاعدة يتقافزون بين أسيجة حدائقنا ويتركون وراءهم خطوطاً من دم وأغلفة رصاص.

النفط يتفصّدُ من غِرْيَن أجسادنا، أشمُّ عبقه الثقيل يسيل بين رعبي وأرقي ويلطخ وسادتي، يجري نهر لهب ويحرق أبعد أحلامنا ثم يتفتح ترفاً ويخوتاً وطائرات خاصة وغانيات فاتنات في جهات الآخرين.

النفط لحم الجسد وعصب البلاد وهو ليس سوى خدعة الماس السائل ينبثق ذوباناً من قلب الأرض وليس غير شهقة امرأة تنوح عند الباب الوسطاني لسور بغداد بعد مقتل ولدها.

مساءُ الرعب مرقّشٌ بالرصاص، أعزز أبواب البيت بالمزاليج والأقفال، أكمن في إحدى الزوايا بعيداً عن مرمى رصاص المتقاتلين.

يعلم النفط أنه سيّد سادات العالم وبه تدوم الدول أو تزول. ترى من أي بئر يستمد الموت خلوده؟ من يُدِلُّ الموت كل آونة على رائحتنا، أهو النفط أم لعنة الإله تموز تلاحقنا من جيل إلى جيل؟

سفينة زيو سيدرا ملاح الطوفان

قالوا: ذلك شرط التراجيديا،دعوا الطوفان يطغى دماً

ذلك شرط ظهور المنقذ وقيامه، خضّبوا المدن واللغة بالدم ليقوم المخلّص.

قالوا: علّقوا رؤوس النساء على باب الطلسم في سور بغداد فتلك بشرى الخاتمة ودنوّ الخلاص.

تناثرت الأقاويل والتأويلات حول ملّاحي السفينة الغارقة، نفى الكثيرون قصة الفُلْك، قيل إن رسول الخلاص أتراحاسس أو زيوسيدرا المرتجى لم يصلنا ولم ينشئ الفلك من القصب وما طلا قاعه بالقار كما أمره الصوت السماوي، ولم يحمل من كل الكائنات أزواجاً.

ماذا صحب الملاح السومري زيو سيدرا في الفلك الموهوم؟

أذكورا مخصيين؟ أم نساء عواقر؟ أم مسوخاً ستسود الأرض بحدّ السيف؟ أم أزواج مومياءات وحبوب منع الحبّ؟

لاأحد بوسعه معرفة الحقيقة. قيل إن الملاح زيو سيدرا عوّذ الفلك بالطلاسم والتمائم؛ فما عدنا نراها أو نميزها عن لجج الموج. قيل إن الفلك شفافٌ يعبره البرق كبلورة صافية ؛ فأين الكائنات؟

بوسعنا أن نصدّق كل هذا ونخادع وعينا إن شئنا السلامة، أو نشيح عن قصة الغرق وننسى الخديعة ونتابع سيل الحكايات التي تروى كما يروق لملفّقي التاريخ ومعلّقي الفضائيات؛ غير أنّ الناس لايزالون مشغولين بتأويل الحكاية والارتياب بالتفاصيل وتأويل التأويلات والظنون.

لا أصدقاء في وحشة الحرب

وحيدةً أطوف شوارع بغداد التي يلفقون وجهها من نفط ودم وخرافة، هويتي خارطة قديمة مرقومة على رق جلدي ومخطوطة بالزعفران لبغداد المدوّرة، أحتفظ بها داخل مغلف بلاستيكي في حقيبتي مع وثائق قد تفشل في إثبات شخصيتي إذا ما تعرضتُ للموت وتحولتُ إلى جثة مجهولة الهوية، لاأصدقاء في وحشة الحرب، الصداقة انزوت في أنانية الأرواح المروعة التي تتشبث ببعض وَهْمٍ عن النجاة، لاأحد، لامقدسات بعدُ كالتي يدّعيها العشاق والأصدقاء، بات مقدّسهم الوحيد أن يمدّوا حيواتهم برهة أخرى في حفل الموت الكبير.

لاوجود لما يدّعيه الكُتّاب عن القيم وصناعة الأمل. بأيّة مادة يصنع الأمل والرماد وحده يغطي وجوهنا ويحدّد مسارات الدموع؟

الأعاجيب توارت، والمعجزات ليست لبلاد تتهاوى، جسدي يترمل كل ليلة في حفل الرصاص ؛ فأموت ميتات ناقصة تشل وعيي وتبلبل الحواس، فلا أميز بين ما أنا فيه: أهو موت ناجز أم بقية من حياة مسلوبة؟ !!

يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
عام

السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو

علي بدرفي مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram