شوقي يوسف بهنام إذا كنا في محاولة سابقة (1 ) قد سلطنا شيئا من الضوء على بعض الخفايا النفسية لدى الشاعر نزار قباني ، فإننا في هذه المحاولة سنمضي في ذات الطريق ونكشف المزيد من تلك الخفايا التي كان الشاعر يعاني منها إذا جاز لنا قول ذلك . وما يشجعنا من أن نتناول في هذه المحاولة ، فيما يراه الأطباء والمحللون النفسانيون بشأن ظاهرة هوس الحرائق أو الرغبة الجامحة في إشعالها والتلذذ بالنظر إليها والذي يطلق عليه Pyromania هو علاقته بالفيتيشية .
وهو اضطراب جنسي كنا قد وجدنا جذوره لدى شاعرنا .وسنقف عند الوصف الذي قدمه الحفني في موسوعته الخاصة بعلم النفس والتحليل النفسي . حيث يقول عنه ( نزوع لا يقاوم الى إشعال الحرائق ، ويصاب به الذكور أكثر من الإناث ، سواء بين البالغين أو الأطفال . ووجد كومب "1964 " إن الأعراض تظهر عادة في سن السادسة ، وقد تستمر حتى الرشد ، وكل الأطفال المصابين به ينحدرون من بيوت منهارة ، سلبوا العطف ، منبذون ، تنقلوا من بيت إلى بيت أو تربوا في الملاجئ ، وكثير منهم اقل من المتوسط ذكاء ، قد مارسوا أنواع السلوك المنحرف ، تاريخهم مليء بالهروب من البيت والمدرسة وبالسرقة وينتشر بينهم الإصابة بالتبول الليلي . وترى البعض إن هوس الإحراق انحراف جنسي يرتبط بالفيتيشة ، ودوافعه الأساسية هي الإ شباع الجنسي . ( 2 ) . ويرى ( أوتو فينخل ) وهو من الشارحين الكبار لنظريات التحليل النفسي : إن الولع بالنار وإشعال الحرائق ( البيرومانيا) ظاهرة مقترنة بالهياج الجنسي ، حيث يقول ( أن الهياج الجنسي عند رؤية النار ظاهرة عادية عند الأطفال . وليس من اليسير تفسيرها .ويكشف التحليل عن فاعلية الحفزات السادية ، التي تستهدف تدمير الموضوع ، وعن فاعلية اللذة الجلدية بتأثير دفء النار . ولكن بالإضافة إلى ذلك ، فثمة شئ أكثر نوعية فيما يتصل بالهياج الجنسي الذي تثيره النار . فبصورة منتظمة نلتقي بعلاقة تستقر عميقة مع الشبقية البولية . وقد اتخذ ( فرويد ) من ذلك منطلقا لافتراض تأملي عن اصل الاستخدام الثقافي للنار . فبنفس الطريقة التي توجد بها انحرافات كوبروفيلية تقوم على الشبقية البولية ، فكذلك ايضا يمكن أن تنشأ انحرافات تقوم على مشتق الشبقية البولية ، التلذذ بالنار ؛ فاللذة في إشعال النار ( في الواقع أو الخيال ) يمكن ان تصبح الشرط الذي لا غنى عنه للاستمتاع الجنسي . ففي انحراف إشعال الحرائق ، تحكم الحفزات السادية الشديدة الحياة الجنسية ، وتعمل القوة التدميرية للنار كرمز لشدة الحفزة الجنسية . فالمرضى يعجون بالحفزات الانتقامية ، هذه التي تدين بشكلها الخاص لتثبيتها على الشبقية البولية . وكما هو الحال في الأعصبة الاندفاعية الأخرى فإن الهدف النمطي لهذه العدوانية هو إكراه الموضوع على تقديم الحب أو الرعاية اللذين يحتاجهما ، نرجسيا ، المريض . (3 ) . ويعد فينخل من أفضل من قدموا شروحات عن نظرية التحليل النفسي ، ولذلك فأن هذا التعريف الذي قدمه هذا الشارح يعتبر وجهة نظر التحليل النفسي . و لا يتسع المجال للخوض في تفاصيل هذا النمط السلوكي على ضوء النظريات اللاحقة لمدرسة فرويد . والذي يتابع تاريخ تطور هذا التيار سيلاحظ ان مقولة ( جاك لاكان ) ؛ المحلل النفسي الفرنسي والتي اعلنها منذ بداية منتصف القرن الماضي والقائلة ( العودة إلى فرويد ) ما زالت بهذا القدر من الفعالية والأهمية للعاملين في مجال التحليل النفسي ، تنظيرا وممارسة . وهذا يعني ان التحليل النفسي لا يزال ، وبجدارة ، يتبوأ مكانة متميزة على عرش مدارس علم النفس ، لاسيما في مجال ديناميات الشخصية ومجال الأمراض النفسية والعقلية معا . و لا يخرج ( غاستون باشلار ) عن هذا التصور في كتابه " التحليل النفسي للنار " إذ يحلل النار على انه مثقلة بالرمزية الجنسية . إذ الانتصار على النار هو انتصار جنسي .. فالرجال الأول انتجوا النار بحك قطعتين من الخشب الجاف .. الاحتكاك تجربة أضيفت عليها الصفة الجنسية بقوة .. (4 ) وقد درس ( ج . ب . بايارد ) المصابين بهوس الاحتراق ويستنتج هذا الباحث أن للنار معنى عميقا ، متعلقا بالروح البشرية ، روح الحياة المتطهرة ، أي الحياة الروحانية ، وكذلك هي رمزيتها ، وفق منظور هذا الدارس ، في الأساطير والفلكلور العالمي ( 5 ) . ولسنا ، هنا ، في معرض تقديم عرض كامل للأدبيات المتعلقة برمزية النار ، بقدر ما نريد الانطلاق من التصور الفرو يدي ، حصرا ، لقراءة بعضا من النصوص الشعرية للشاعر نزار قباني . وما من شك ، فأن هذه العينة من النصوص الشعرية في الدراسة الراهنة ، ليست من الشمولية ، بحيث يمكن القول أنها قدمت صورة تامة عن نزار على كونه حارقا ومحروقا ... أي مصابا بهوس الاحتراق . ولنبدأ رحلتنا هذه بالمقاطع الأخيرة من قصيدة " حبيبة وشتاء " لكي نرى ماذا يمثل النار أو الحريق بالنسبة لشاعرنا . يقول :-انا كالحقل منك ِ .. فكل عضو بجسمي ، من هواك ِ ، شذا يضوع َجهنمي الصغيرة لا تخافي فهل يطفي جهنم مستطيع ؟فلا تخشي الشتاء و لا قواه ففي شفتيك ِ يحترق الصقيعهل نحتاج إلى وقوف طويل أو قراءة متأنية للنص ؟ الشاعر صريح في وصف مشاعره إزاء حبيبته .. يقول بصراحة بأنه الحقل .. وكل أعضاء جسمه تفوح منها أهواء حبيبته . يصف حبيبته بأنها الجهنم الصغيرة .. ويعتقد الشاعر بأن ما احد يستطع إطفاء نيرانها .. حتى صقيع الشتاء يحترق في شفت
قباني وهوس الحرائق..رؤية نفسية
نشر في: 18 يونيو, 2010: 04:06 م