اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > ماذا بقي من نزار قباني

ماذا بقي من نزار قباني

نشر في: 18 يونيو, 2010: 04:07 م

انتقال نزار قباني من شاعر للذاكرة العربية الى ذاكرة للشعر العربي المعاصر. غالباً ما يسقط كثـر في قعر النسيان أثناء الارتحال من الضفة الأولى الى الثانية. ونادراً ما تنجو قلة من الشعراء من هذا المصير المحتوم حتى وإن كان من بينهم من يستحق أن يتخطى عثـرات الموت الى دائرة الحياة في ذاكرة القيامة العربية. معادلة كهذه غامضة، على الأرجح، لا تخضع بالضرورة لمعايير منطقية،
 خصوصاً في مجال الشعر الذي يوقظ أساطير وخرافات واحتمالات في لا وعي الجماعة، ويميت أخرى في الوقت عينه. نزار قباني من هذه القلة القليلة التي قيّض لها أن تقطع المسافة بين الحياة والموت، وبين الموت والحياة بسرعة البرق. والأغرب أنه كان يصنع موته في حياته، ويقيم بنيان حياته في موته. بدا، منذ إصداره ديوانه الأول "قالت لي السمراء" في العام 1944 وانتشاره كالنار في الهشيم، أنه كان يقترب من هذه المعادلة على نحو مبكر جداً. ذاق طعم الشهرة التي ضربت الآفاق منذ نعومة أظفاره. لذلك كان دائم الخشية من أن يفقدها بالسرعة عينها التي حظي بها. أدرك وهو لا يزال في الحادية والعشرين من العمر أن الحد الفاصل بين الحياة والموت هو نفسه الحد الفاصل بين الشعر وموت الشعر. انحاز بكليته الى الأول من دون أن يشطب الثاني من جدول أعماله. والأغلب أن موت الشعر في نفسه شكل الحافز الأقوى والفكرة الأعمق التي لم تبارحه لحظة واحدة. لم يكن بمقدوره أن يستبعد شبحها المخيف إلا بالاستسلام التلقائي لمفاتن الشعر والادمان الاستثنائي على التوغل فيها والكشف عن خباياها. والأغلب أن الالتزام بهذه المعادلة المستنزفة للأعصاب أسفرت عن أربعين ديواناً تمكن نزار من إنجازها في زمن قياسي، ينطوي، في الأغلب، على مكابدته الموت في الحياة ترجمة للحياة، والحياة تعبيراً عن حركة الموت في متاهات الحياة. ومع ذلك، هل كان من شأن هذه المعادلة أن تتخذ هذا المنحى "القسري" إذا جاز التعبير بين جدل الموت والحياة؟ الأرجح لا. كان ثمة تفاصيل يخترعها الشعر في حياة نزار القصيرة الطويلة تحيله، على الدوام، مشروعاً ناقصاً، أو قيد التكوين، أو متعثراً، أو يدور في تلك المتاهة، أو يختزن نقيضه، أو ينسف أسسه، أو يتنكر لذاته، أو يتسول لغته على قارعة الذاكرة، أو ينقلب على لغته. في حمى هذا التفاصيل المثيرة للهذيان، المتلهفة لملاقاة ظلال اليأس، المستنكرة لموت الشعر، المجبولة بفرح الشعر، كان نزار يولد ويموت متأرجحاً بين الفردوس والجحيم، بين النجاة والهاوية، بين الهاوية والهاوية، بين موت الكلمة قبل أن تولد وانفتاحها الكامل على الموت بعد الولادة.تساؤل رتيبماذا بقي من نزار قباني بعد عشرة أعوام على التحاقه بأزمنة الرحيل حيث يبدو المشهد عارياً منطوياً على صمته، غامضاً بخرافة الشعر، منزوياً، حتى الأنين، في مساحات مشوشة من التجرؤ على اللغة وإعادة تشكيل الوقائع؟ تساؤل بديهي، على الأرجح، تطرحه المناسبة، بسذاجة مبتذلة، أكثر مما يفترضه المخاض الشعري الذي لم يكن لنزار أن يخرج من أتونه أبداً. ولأن هذه المناسبة محكومة بالشرط الزمني للغياب، وهو التعاقب الجبري للأيام والأشهر والسنين، يتحول هذا التساؤل ضرباً مملاً ورتيباً وشكلاً باهتاً للزمن المتهالك الزاحف بتباطؤ على هامش الزمن الشعري المتدفق في جسد اللغة وظلالها. يتعذر استخدام هذا التساؤل، على نحو من التطبيق التلقائي لمسألة في الرياضيات البحتة. ولو كان الأمر كذلك، لأصبح الشعر وتداعياته وفضاءاته شأناً علمياً تناقش ملفاته في المختبرات.ومع ذلك، غالباً ما يُستدرج هذا التساؤل لأغراض انتهازية لا تتعلق بالشعر بقدر ما يراد بها النيل من هذا الشاعر أو ذاك، بوضعه مباشرة في مواجهة الزمن الجارف بقسوته وأحكامه المبرمة. وغالباً أيضاً ما يصار، في هذا السياق المجحف، الى اجتراح تسوية متعجلة لا تنتقص من جبروت الزمن، ولا تمعن في إهدار دم الشاعر، تسوية من نوع "الفتاوى" المنقوصة التي لا تتجرأ على المس بسلطة الزمن ورهبته، ولا تستوجب، في الوقت عينه، إدانة قاطعة للشاعر. بل تكتفي بإصدار أحكام ثقيلة مع وقف التنفيذ. هذا هو، على الأرجح، مآل الشاعر مع الزمن المتفوق بأسلحة لا تنفك تتكدس في مخازن وترسانات. بدليل أن هذا الأخير لا يحتاج أبداً الى محامين محترفين للدفاع عن آرائه الصارمة. بينما يصبح الشاعر خصماً ضعيفاً بعد رحيله يكاد يستجدي من حيث هو قابع في صمته البعيد، من في مقدوره أن ينفض عنه غبار التآكل السريع.ماذا بقي من نزار بعد أن أصبحت تفصلنا عنه جبال بلهاء من نفايات الأيام وفضلات السنين؟ كل شيء، على الأرجح، بمقاييس الشعر. ولا شيء، على الأغلب، بمقاييس الزمن العربي الرديء المولع ببهرجة المنابر وصخب الأضواء وضجيج التصفيق الحاد الآتي من مقابر التاريخ ومحاكم التفتيش وطقطقة العظام المتحللة في أروقة الحنين الى الموت المجاني.بقي كل شيء من نزاريصعب القول، بالنسبة الى شاعر كبير كنزار، أن ثمة ملامح منه صمدت في وجه الرياح العاتية فبقيت على قيد الحياة. وثمة تجليات أخرى كانت ساطعة في حياته نتيجة لشخصيته الساحرة، فقدت بريقها بعد رحيله فذبلت وتلاشت ثم اندثرت. تقييم اعتباطي متسرع يلامس القشور فقط، وينأى عن المس بطبيعة الشعر وهو ينتفض على نفسه وغيره في حركة داخلية لا تهدأ تبدو أكثر عنفاً من ورا

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram