شاكر لعيبيعام 1856 نشر تيوفيل غوتييه كتابا بعنوان (الفن الحديث)، كان النص الأساسي فيه قد كُتب عام 1848 وهو يتعلق بالرسام الفرنسي المنسيّ المجهول قليلاً بول شينافار، وإلى جواره مقالات حول مواضيع أخرى تتعلق بشؤون ثقافية وتشكيلية شتى.
عنوان الكتاب وحده مشروع كامل، لأنه يتعلق من جهة بفهم (الحداثة) في أوربا، الممنوحة شتى الظلال في سياق تاريخي متقدِّم، وفي إطار ثقافي على درايةٍ بالمصطلحات التي يستخدمها، ويتعلق من جهة أخرى بالتضبيب المرافق لمفردة (الحداثة) عربياً وارتباطها الواعي أو اللاواعي (بالتحديث) الشكلانيّ والتقنيّ فحسب، ثم عدم اتساقها مع تطور تاريخيّ مماثِل أو سياق مفهوميّ صارم.سيبدو مدهشا بعض الشيء أن يُنجز في نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر كتاب بالعنوان هذا، بل خارقاً للعادة عندما نقاربه، ولا نقول نقارنه، بتأخر وصول المصطلح في الثقافة العربية، ناهيك، من جديد، عن الالتباس المحيط باستخدامه حتى اللحظة الراهنة. من هنا رغبتنا بترجمة الكتاب الذي سيصدر قريباً. ولأن كتاب غوتييه كان قد أنجز عام 1848 فإن أسلوبه ولغته مشبعان بأسلوب ومعجم النصف الأول من القرن التاسع عشر، إذا لم نقل بأنهما ما زالا يحتفظان بذكريات الثقافة الفرنسية في القرن الثامن عشر. إن الجمل طويلة ومحتشدة، حماسية حيناً، وغنائية حيناً، والتراكيب اللغوية تقوم على الجمل الاعتراضية المتوالدة عن بعضها، وبعض المفردات تكتب بطريقة مهجورة اليوم، وعلامات الوصل والفصل لا تتابع المعايير السائدة حاليا في كتابة الجملة الفرنسية. كان يتوجب لهذا السبب ليس ترجمة الكتاب بل القيام بعملية "تحقيق" له كما نفعل بالضبط عندما نعيد مثلاً نشر كتاب تراثي عربي من القرن التاسع عشر نفسه. وهذا ما حدث تقريباً. إن جميع العناصر أعلاه لم تكن لتسهّل عمل المترجم، أيّ مترجم، إذا لم تعقدها. ولأن الأمر لا يتعلق بالتحقيق الموصوف الذي يُنجز في اللغة نفسها، فإن المرء يجد نفسه في أحيان كثيرة مجبراً على إعادة صياغة النص متشبثا رغم ذلك بالرغبة في البقاء أميناً لأسلوب المؤلف خاصة. لم يكن غوتييه يكتب بحثا جافا بل نصا أدبياً رفيعا مطولاً يقترب حرفيا من لغة الشعر، ليقدِّم لنا نصا من أصعب النصوص التي قد يواجهها مترجم من المترجمين. كل هذا لا يغير شيئا من حقيقة أن المشكلة الكبرى ظلت تدور في سياق مفهوم (الحداثة) ومعناها وإن دار السجال حول فنان معين هو شينافار. كان تقييم غوتيه وبودلير لهذا الفنان متعارضاً تماما. ففي حين كان غوتييه متحمِّساً لمشروع الرسّام، وعبره عن تصوراته للحداثة، فكتب عنه العديد من المقالات التي أثارت ردود فعل قوية من طرف رجال الدين المسيحيين المتزمتين، إذ شنوا عبر جريدتهم (صديق الدين) حملة ضد مشروع الفنان واتهموه، من بين أشياء أخرى، بأنه يود "إعادة الاعتبار للجسد" الغريزي". أما بودلير فقد قارن عقل شينافار، مُفْرِطاً، بمدينة ليون الفرنسية قائلاً: "إنه مختلط، سُخامي، مشوّك بالمسامير، مثل مدينة ليون ذات أبراج الأجراس والأفران". وأشار إلى فكرة شينافار الإشكالية التي يقول فيها إن "كذا فن ينتمي إلى كذا عصر من عصور الإنسانية كما ينتمي كذا شعور إلى كذا عمر من عمر الإنسان" مستنتجاً أن: "شينافار هو عقل كبير للانحطاط وسيظل علامة رهيبة على الزمن". كما قال عنه كذلك أن" "الأشياء في عقله لا تنعكس بوضوح، بل هي تنعكس عبر وسيط من البخار".كان الإشكال بين مثقفين فرنسيين كبيرين معنيين بالفن الحديث ومغزاه بمناسبة فنان معين. من قرأ كتاب غوتييه من فناني بداية القرن العشرين ؟.لا نعرف على وجه الدقة, لكن هناك إشارات مريبة للغاية قد تعني أن أفكاره أثّرت على بعض مَنْ لا نتوقعهم من أشهر الرسامين. فإن عبارة بيكاسو الشهيرة "لا أبحث، أنا أجد" (je ne cherche pas, je trouve) نجد ما يماثلها على الصفحة 127 من كتاب غوتييه " لم يكن يرسم كان يكتشف" (Il ne le peignait pas, il le découvrait) لكن بصيغة الماضي. أليس هذا مثيرا وغريبا؟. ولد بيكاسو عام 1881 وبعد بضع جولات إلى مدريد وبرشلونة وصل إلى باريس عام 1900. ومن المحتمل أن يكون كتاب غوتييه موجودا في المكتبات العامة أو الشخصية ومن المحتمل كذلك أن يكون عنوانه، على الأقل، قد دفع بعض الرسامين ومنهم بيكاسو إلى قراءته، الأمر الذي يفسّر هذا التقاطع المذهل بين عبارته وعبارة غوتييه. ولعل عبارة بول كليه الشهير أيضا: "جعل اللامرئيّ مرئيّا بوسائل الواقع" (Rendre l’invisible visible au moyen de la réalité) من ذات الطبيعة التي لعبارة غوتييه "ما يجب على الرسام البحث عنه هو التأويل وليس نسخ الأشياء، وأن يُري الظاهر وليس الواقع" (rende l'apparence et non la réalité). إن قراءتها بالفرنسية كاملة ترينا بشكل أفضل القرابة الداخلية مع عبارة كليه، الأمر الذي لا يمنع من التذكير بأن مفردة (apparence) توضع
تلويحة المدى:هل سرق بيكاسو وكـلـيــه بـعـض أفـكـار تيوفيل غوتييه؟
نشر في: 18 يونيو, 2010: 04:45 م