طالب عبد العزيز
هذه التي يبتزها المطر، من ساعتين، تحت الشجرة، أطاحت العاصفة بها العام الماضي، الإوزَّة، ذات العينين الواهنتين، والتي اسقط ظلام البارحة ريشها، ينشقُّ قميصُ اللحظة عن حاجتها لي، ومثل سعفةٍ أثقلها طيرٌ كثير، هويتُ بها.. كان خيطُ الماء يتسرب عارما تحت جناحها، والعشب الرطب بارداً، يتمرأى في كنف الظلام على بطنها.. والفجر لما يزل في بادية الليل، هناك في البعيد.. كانت المئذنة نائمةً أيضاً، والسلك الذي يصل المسجد بالناس لا شأن له بصوت أحد.
ليس للديكِة، الاحمرُ القُرمزيُّ هذا، هو رصاصيٌّ وأبيض، وعليه من زهر الباقلاء كثير، وليس للفاختة ذاك الثقب الذليلُ في الحائط، أبداً، هو ثقب حسب. ومثلما يتفرسُّ عصفورٌ عودَ حلفاءٍ لين، يتأمله عشَّاً قادماً، أخذت السلحفاة الطريق الى النهر، وعلى ظهرها طينٌ لم يتزحزحْ منه إلا القليل. في أجمة السعف اليابس يحترقُ شتاءٌ لا أحدَ سواي له، وينصرف عن الموقد كلامٌ هذرٌ، لم أدَّخرهُ ، لذا، أدنيتُ من إبريق الشاي حكاية الإوّز، الممسكِ بنداءِ الضوء، قبل الضوء، ومثل ثغاء قديم، تفتقَ عن ريش الغمام ثانيةً مطرٌ دهمٌ، صارَ يطرطش في الباحة المفتوحة، ثم أنه إقتبلَ ناحيةً، وفتق حائطاً من الطين، فسالت أوديةٌ لم تسأل النهر منصرفاً.
في عافية ما بعد السُّفاد ينفشُ الديكُ ريشهُ، ليس الاحمرُ القرمزيُّ له، ولا الزهر الرصاصي الابيض للباقلاء له، فقد قلب المطر باليتَ الألوان، وظلَّ يعبث ثقيلاً، فأسقط نحيَّ الزبدة من عليائها، حيث كانت، لصق نُحيِّ الزيت والخل، وأوكأ آنية الفخار، بحبالها القِنَّب الثلاثة، لم يمض عام على انتظامها هناك. وكل ما تبرعم تحت شجرة التوت لم يعد يعني أحداً، أنا التحفُ مِدرعة الصُّوفِ وأنصت للمطر، وهو يترك غابة النخل هامدة. كان رهط الإوز قد تفرَّق في الجوار، وفي غامر، عميمٍ من الدفْ، تتركُ القطةُ ظهرها دريئةً، لما يتقلبُ بين فخذيها من مواء، كأنَّ الجمرَ في الموقد لم يخبُ بعد،كأنَّ الغواية في أولها، ومن الشَّمس بان خيطٌ نحيلٌ واحد، لا أكثر.
لم تسقط المركبةُ عمودَ الكهرباءِ حسب، هي أتت بالليل الثاني باكراً، تقولُ مذيعة الراديو، وتشير النخلةُ التي اقتلعتها العاصفة الى ما أسمع، هي تبتسم خلف مكبر الصوت، فتأتي الحروف مبللة.. كان الضوءُ يتحشرجُ في السلك المعدني، الممتد من الباب الى السرير، أحسنت الخادمة أنساقَ حاشيته.. وفيما يُشغل قدح الحساءٍ شاغرَ الطاولة، الذي كان، أفردتُ للأرغفةِ ما فَضُلَ وانتأى منها، كان ساخناً، ألتمستُ له طريقاً الى الفضاءِ الشَّحيح، ومن الملعقة يصدرُ صوت في الجوع، يشبه لحظةً قديمة لم تلبَّ أبداً، لكنني، من ساعة، حيثُ جلستُ صارت الشمس تجيءُ وتنصرف، نصفها على النخل، وبعضها الآخرُ مازال يموء في النافذة، التي أغلقتها الصيفَ الماضي.. ثمةً من لا يتنكرُ لي قرب النهر، كنتُ أخذتُ عنه صنعة المباهج، وعن الريح أخذت ما تيسر من الشتاء ونمت.