حيدر المحسن
فارق الحياة قبل أيّام طبيب الأطفال الذي لم ألتقِ به يوما، رغم قربنا في محلّ العمل، والتكسّب من مهنة واحدة هي الطبّ، طوال ثلاثة عقود، وأكثر، وصارت للرجل بالنتيجة صورة في خيالي هي من تأليفي، ربما قاربت هيئته في الواقع، مع أني واثق أن للراحل محيّا أكثر فرادة ونصاعة من محاولات قلمي الفقيرة...
حافظ الراحل على اسم جدّه، زاير، رغم بساطته وبدائيته، إن صحّ التعبير، ولم يشطبه في أيّ مناسبة، وهذه أصالة أولى تُثقلُ الفرد بمعنى لا يقرب منه إلّا من كانت له حظوة الدنوّ من خطّ استواء الخُلُق، عندما يمرّ بين صفوف البشر، ويقسمهم إلى نصفين أشرار وأخيار، وبدرجات تبتعد وتقترب من المركز.
يمكننا عدّ وصفة الطبيب إلى مريضه صورة سالبة -بلغة التصوير- له. وكانت تصلني من الراحل، حين تتقاطع خطوط العمل بيننا، ورقة بيضاء نظيفة مشغولة بعناية، فيها خارطة شاسعة للطفل المريض، الاسم والعمر والوزن ودرجة الحرارة ونوع الشكوى، الفحوص المختبرية والشّعاعية مفصّلة بالرموز، ثم جرعة العلاج، محفورة على الورقة البيضاء بخطّ أعمق من خطوط أيدينا، كأن ما يكتبه الطبيب يماثل ما سيجيء به القدر. أيّ ثقة عجيبة بالنفس، وفي مكانها، بالضبط! كلّ هذا لأجل أن تطمئن عائلة الطفل، وتنام الأم وينام الأب قريريْ الأعين. أمّا ما يخصّ التعليمات للصيدلاني في كيفية تحضير الدواء، فهي مفصّلة بإسهاب.
يُعرّف الإسلوب بأنه الطريقة في التفكير والتعبير والتأثير، وفي العمل. ومثلما كان زاير يختار حروفه، ونوع الخطّ، والقلم الرصاص الذي تفرّد باستعماله بيننا، فهو ينتقي من يروم شفاء أولاده على يديه. الغباء والجهل صفتان مرفوضتان تماما في من يريد أن يطبّب ابنته أو ابنه عنده.
وأنا أتملّى ورقة العلاج التي تحمل اسمه، أتمنى أن أرى فيها صورتي الشّخصية، وأغبط الرجل على هدوئه الشديد والعميق والبالغ، والذي يدلّ على أن تفاصيل عيشه ليس فيها غير حياة رضيّة لعائلة لا يمكن أن ترى الشّقاء يوما، لولا الجائحة التي أصابت جميع أفرادها، وكان الأب هو الضحيّة.
ينتاب المريض بعدوى كوفيد 19 ذعر شديد يكاد يكون العلامة الأهمّ من بين أعراضه، ويفكّر عندها أن حياته قريبة من ناب وحش. لا أعرف كيف كان طبيب الأطفال جواد زاير يبدو وهو غارق في تلك الشدّة، والأمر الذي أنا متأكد منه أن زاير كان يشبه شجرة، وبدأ بها الموت من القمة. عن الحكمة الإيرلندية التي تقول إن موت الرجل ذي المناقب الحسنة هو خبز للحيّ في عائلته؛ أنظر الآن في خيالي صورة ابن الطبيب الراحل، أو ابنته؛ عودٌ قُلّمَ، وأعيدَ زرعه في تربة الأب، القوة الكامنة فيه سوف تجعله قويا لا محالة، تلوّحه أشعة الشمس.
في القرن التاسع عشر كان داء السلّ يفتك بالبشر، ولا يوجد دواء شاف. تشيخوف، الطبيب والمريض بالسلّ، يذكر في دفتر مذكّراته أن هناك طريق يجتازه المريض بمشقة، يمتدّ بين «ثمة إله» و»ما من إله». اختار الكاتب الروسي نوعا من اللامبالاة وهو سائر على هذه السكّة، ولم يكن راغبا باستبدال لامبالاته بأي شيء لأنها صارت ديانته. أغلب الظنّ أن جواد زاير، ونتيجة للصورة التي كوّنتها له في خاطري، فضّل أن يسير على خطى تشيخوف في هذ المضمار، ولم يقصد أيّ من الطرفين الأقصيين منه.
نحن الآن في الخامس عشر من يوليو 1904. في الصباح كتب تشيخوف في مفكرته: «لماذا هذا الصباح؟ لماذا تُشرق الشمس من وراء هذا المعبد لتذهّبَ النخلة؟ لماذا جمالُ النساء هذا؟ وإلى أين يُسرع العصفور، وما معنى طيرانه ما دام هو وصغاره والمكان الذي يهرعون إليه سوف يصير غبارا مثلي؟».
في مساء اليوم نفسه توفّي تشيخوف...
جميع التعليقات 1
Anonymous
شكرا جزيلا لهده الكلمات الطيبة بحق والدي المرحوم الدكتور جواد كاظم زايز