طالب عبد العزيز
من بين مئات التجارب الشعرية التي إطّلعنا عليها لا يستوقفنا إلا القليل، وأعتقد بأنَّ تجارب النصف الاول من القرن الماضي كانت الاهم والأغنى والاكثر إثارة، ولعل حياة وشعر اليوناني قسطنطين كافافي واحدة من التجارب تلك، هذا المتفرد في كل شيء
، الذي عاش مغتربا في محيطه وداخل نفسه أيضاً، وارتضى حياةً لا يمكن وصفها إلا بالخيالية والاستثنائية، حياة نأيٍّ عن كل شيء إلا الماضي، الذي ظل ينهل منه مادة شعره، فهو الذي عاش الايام والسنوات خارج معانيها التقليدية، ولم يحظ منها إلا بقصائد كتبها هنا وهناك، احتفظ أصدقاؤه ببعضها... أليس هو الذي وصف أيامه، وربما أيامنا جميعاً، بأنها مثل صف طويل من الشموع الصغيرة والموقدة.
ومثل أيِّ شاعر ومفكر حقيقي تملّك كافافي شعور مطلق بالغربة، غربة طالته في البيت والمدينة والشارع والاصدقاء، ومع إقرارنا بطبيعة حياته التي أتسمت بعناية أمه الفائقة، والتي القت عليه من ظلالها الكثير، مع وجوده في محيط مختلف بالاسكندرية، حيث شهد بداية الاستعمار الاوربي، وتنصيب الخديوية، التي عبثت بمقدرات المدينة، القضية التي عانى منها هو المشدود من أنياط قلبه الى بحرها وحجارتها وتاريخها، والحاضنة الفريدة لماضيها ووجودها، إلا أنه كان شبه منفي، تضيق عليه الدار، التي أمضى حياته فيها، بلا أم وزوجة أو أبناء.
لكنَّ الغربة تلك كانت جزءاً من فلسفته، ولم تنم خارج وعيه، فهو يرى بأنَّ كثرة الاحتكاك بالناس ترخص من شان الحياة، وأنَّ الطواف في المدن يحطُّ من قدرها، وكان يرى بأن غربته لا تقاوم إلا بالرجوع الى الماضي، فهو الكفيل بخلاصه مما يعانيه. ولعلنا نشترك معه في بعض من مثل هذه، فنحن نتكلم ونجالس الناس، ونجدنا معهم في الكثير المشترك، إلا أننا غرباء أيضاً، لكننا، كمن تعرض الى تنويم مغناطيسي، نحيا غربة منتجة، محكومة بعقل مدرك، وليست غربة من فقد عقله، إثر صدمة ما. وإذا كان كافافي قد لجأ لغربته بسبب فقده لأسرته ومحيطه الاجتماعي، فإننا نعيش غربة مختلفة تماما، وشعو رنا بها نتاج وجودنا مغتربين، مع اهلنا، ومحيطنا الاجتماعي، الذي بات طاردا لنا، وفي الوقت الذي كانت فيه روح كافافي قد مزقتها الاحداث والوقائع تلك، فأن أرواحنا تتمزق بما سيحدث ونتأمله، غير قادرين على مقارعته.
في قصيدته الأشهر (إيثاكا) يفرغ فلسفته التي تذهب الى اليأس والعدم، فهو يستحضر البطل الاسطوري (أوديسيوس) الذي عاد الى جزيرته بعد الأهوال والمعارك والمغامرات ليجدها جرداء .. هذا الهدف الذي لا يستحق في النهاية كل ما بذله في سبيله. وربما وجدنا أنفسنا أقرب الى فلسفته تلك، ترى، ما جدوى الحياة التي ننشدها ونفنى من أجلها؟ ونحن نعلم سلفاً أن كل شيء سينتهي ويتحطم ويصير بلا ذاكرة. معلوم أن كافافي ظل يوقد الشموع للاضاءة، ولم تدخل الكهرباء بيته، لعله كان يريد الابقاء على جزء من كيانه خارج الضوء، بعيداً عن المعاينة والمكاشفة. اليس الضوء مكاشفة وتجلية لمضمر مغلق.؟ على هذه الشموع أنفق باقي أيامه، ليخلد في الذاكرة الانسانية، بوصفه واحداً من أكثر شعراء القرن، الذين سطعت الاضواء على تجربتهم في الشعر والحياة.