ثائر صالح
يستعمل المؤلفون الموسيقيون تقنية الحوار في الكثير من الأعمال الموسيقية والغنائية لتوصيل فكرة ما أو لزيادة التأثير الموسيقي على المستمع.
وهذه التقنية ليست جديدة بل نجد أمثلة عليها في موسيقى القرون الوسطى، وحتى في موسيقى الشعوب المختلفة. تعود أصولها إلى المسرح اليوناني القديم وتسمى أنتيفونيا أي الصوت المضاد، بين الصوت والصوت المضاد، المقابل، ويكون الثاني عادة الكورس. كما عرف الغناء بفارق الأوكتاف (القرار والجواب) بين كورسين، مثل كورس الرجال (القرار) والأطفال (الجواب)، وهو أبسط أنواع الهارموني بالمناسبة. وقد انتقلت إلى الطقس المسيحي البدائي في الحوار بين القس وجماع المصلين (ويقابل دور الكورس اليوناني) أثناء إداء التراتيل.
استمر هذا التقليد بعد ظهور التعددية اللحنية (بوليفونيا) واستعمل على نطاق واسع في الكاتدرائيات الضخمة التي بنيت في أوروبا، حيث أمكن تقسيم الكورس على عدة شرفات أو في أرجاء الكنيسة مما خلق لدى السامع شعوراً جديداً بالمكان بحسب مصادر الصوت المتعددة. كما ساعد تطور فن العمارة في الصول إلى مزايا صوتية معقدة وبالتالي وفرت للموسيقيين مجالاً واسعاً لاستكشاف تقنيات وحيل جديدة في الموسيقى. من هذه استعمال الصدى بشكل مقصود، مثلما فعل أوائل أساطين الباروك مثل كلاوديو مونتفردي (1567 – 1643) عندما وضع أحد المغنين في شرفة بعيدة عن الجوقة والكورس حتى يردد اللحن المغنى وكأنه رجع الصدى.
في تلك الفترة أصبح استعمال فرقتين موسيقيتين وكورسين أو أكثر من الأمور المعتادة، وكتبت الكثير من الأعمال لهذه التشكيلات. من الأمثلة المعروفة استعمال باخ فرقتين وكورسين في عمله الفخم آلام المسيح حسب انجل متى، واستعمال الكورسين بشكل درامي مثير وتوظيف ذلك في الحوار الدائر. وظهرت أعمال موسيقية لفرقتين مثل بعض كونشرتات هندل لكورسين أي فرقتين (عمل رقم 333 و 334 مثلاً)، أو لاحقاً عند هايدن مثل ديفرتيمنتو «الصدى» لمجموعتين من الوتريات.
ويمكن اعتبار شكل الكونشرتو من الأشكال التي تعتمد على الحوار بين الأداة المنفردة والأوركسترا بشكل عام. ومع تطور أشكال خاصة من الكونشرتو مثل الكونشرتو غروسّو (أي الكبير)، قسمت الفرقة إلى قسمين هما الكونشرتينو (الفرقة الصغيرة) وهي الأدوات التي تؤدي الجزء المنفرد وباقي الفرقة وتسمى الربيينو (الحشوة) أو التوتي (الجميع) باستعمال مصطلحات اللغة الإيطالية كالعادة.
وكان ما فعله موتسارت في عمله الخالد سيمفونيا كونشرتانته للكمان والفيولا مع الأوركسترا في مي بمول الكبير (كوخل 364) قمة من قمم الحوار الموسيقي بين هاتين الأداتين. وهذا الشكل هو توليف بين شكلي الكونشرتو والسيمفونية كما يدل الاسم. في هذا العمل هناك حوار بين الأداتين، وبينهما وبين الأوركسترا من ناحية أخرى. نجد في هذا العمل مزيجاً من الأحاسيس والعواطف العميقة التي اختلف مزاجها بتتابع الحركات، والألحان الانسيابية الغنائية. وقد استمعت إلى أجمل أداء لهذا العمل الفذ قبل ثلاث سنوات في بودابست قدمه عازفان مبدعان، كاتالين كوكاش وبارناباش كَلَمَن وهما زوج وزوجته، فبدا وكأن موتسارت قد كتب هذا العمل لهما خصيصاً ليبرز الانسجام بينهما ليتحاوران ويتحول الحوار إلى غزل، لدرجة أنهما بإدائهما الجميل والمتناغم هذا دفعا بالأوركسترا كلها إلى الظل في بعض المقاطع.