كاظم غيلان
لعقود طويلة وتجربة الشاعر الكبير مظفر النواب رهينة مناطق الحظر الرسمي بحكم سياسة أنظمة عمل على فضحها وتعريتها باستمرار ،
لكن صوته كان يأتي هادرا ، شفافا، غاضبا ، مغنيا عبر تسجيلات صوتية مهربة ، اما قصائده فكانت هي الاخرى تشكل مايفوق خطورة منشورات القوى المعارضة لتلك الانظمة التي ادمنت قمع شعوبها ، وهكذا بلغت تجربته مستوى استثنائيا ان كان عراقيا او على المستوى العربي ، فهو ( شاعر الصراحة الفذة) على حد وصف عبد الواحد لؤلؤة ، ومثل هكذا صراحة لابد لها ان تلاقي الحظر في بلدان يصفها الشاعر ب( سجون متلاصقة) فيما حاكميها( سجان يمسك سجان) .
يكتسب اصدار د. حسين الهنداوي “ في أعالي الشجن _ مظفر النواب “ الصادر عن دار المدى ٢٠٢٢ أهميته وتميزه عن سائر الاصدارات التي تناولت تجربة الشاعر لما فيه من انطباعات نقدية جادة اعانته بحكم رفقته الطويلة للشاعر وعبر سنوات لاهبة باحداثها السياسية الصاخبة وتحولات الشاعر الفنية التي رصدها بدقة .
مظفر النواب الشاعر الذي تعددت مواهبه ، فهو الفنان التشكيلي والمسرحي والموسيقي الذي حملت طبقات صوته كل ما في شجن الغناء العراقي السومري من وجع وأسى الطبيعة والانسان ، واغتسل بكل ما في مياه اهوار جنوب العراق من طهر وقداسة .
الكتاب هو سلسلة مقالات نشرها المؤلف على صفحات ( المدى) ولاقت ترحيبا وصدى طيبين لما تضمنته من رصد فني دقيق في المتن الشعري من تجربة الشاعر وخفايا لم يكن القارئ قد اطلع عليها في متنها الحياتي وبما يفوق ما فاته باقر ياسين في كتابه ( مظفر النواب ..حياته وشعره) الذي صدر في ١٩٨٨ اذ شكل مفتتحا للدراسات التي بحثت تجربة الشاعر التي لم تزل تعاني من الحظر الاكاديمي _ في العراق خاصة _ الا بحدود شعره المكتوب باللغة الفصحى ، اذ لم تزل الاكاديمية العراقية ملتزمة بقرار مجلس قيادة الثورة المنحل والذي يقضي بالحفاظ على سلامة اللغة العربية والصادر اواسط سبعينيات القرن الماضي بخلاف كل البلدان التي تهتم برموزها الابداعية
من ابرز ماجاء في انطباعات المؤلف تأكيده على ماحققه النواب من ثورة في شعر العامية العراقية منذ قصيدته الشهيرة “ للريل وحمد” فهو لم يزل الاعلى والاجمل في هذا اللون الابداعي ، مع ان العديد من الاصوات الشعرية التي تلت حركته التجديدية شغلت حضورا طيبا الا انها لم تتجاوز ما افرزته قصائده الكبيرة لاسيما تلك التي خاضت في منعطفات سياسية حادة.
اما في قصائده الفصحى بدءا من “ قراءة في دفتر المطر “ ١٩٦٩ فهي الاخرى ظلمت نقديا ، اذ لم تنصفها معظم الدراسات والكتابات الصحفية المتواضعة التي ظلت تدور في فلك قصائد الادانة والتنديد المصوبة تجاه الحكومات والقمم العربية فيما اغفلت او تغافلت عن تلك القصائد المهمة التي امتازت بغنائيتها وصوفيتها وخمرياتها ، ولعل هذا العيب النقدي يعود لطبيعة الجمود النقدي نفسه الذي يحصر الرؤى داخل دوائر السياسة وادابها .بيد ان المؤلف يرى بأن ( الشاعر اعظم من المناضل والفنان اعظم من السياسي في مظفر النواب) ص٩.
يكشف المؤلف ولاول مرة بحكم رفقته للشاعر عن اول مرة يدخلها للعراق بعد مغادرته له في العام ١٩٦٩.اذ يكشف عن طريقة دخوله عبر بوابة كردستان العراق وصولا لمقربة من قمة جبل ( شاخ ده رش) نهاية ١٩٧٣.اذ امتدت لاسابيع طويلة تخللتها امسيات شعرية شبه يومية وغالبا على ضوء الفانوس . ويفصح عن طبيعة الزيارة بالقول” كان قادما للمشاركة في اجتماع لما تبقى من كوادر جناح القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي « .
في تلك الظروف القاهرة والخطى المغامرة كان الشعر والانشاد والغناء وكل ما هو احتفالي يحضر بقوة اذ يذكر المؤلف بوصفه شاهدا مشاركا:” أمضينا امسيات ثقافية عديدة كان اخرها بمناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة ١٩٧٤ بحضور عدد من ابناء المنطقة ورفاق اجتازوا الجبال والثلوج وحتى الامطار قادمين من شتى المناطق لرؤية الشاعر الكبير كما قدمت والدته واحدى شقيقاته من بغداد واتذكر ان مظفر تبرع لنا بمبلغ دينارين لشراء رأس ماعز لنعد منه وليمة دسمة بمناسبة الاحتفال بعيد السنة الميلادية ١٩٧٤ .وكنا نحو خمسين رفيقا ولم نتذوق اللحم الا مرتين في السنة ....” ص٣٣.
لم يكن النواب بمنأى عن مطاردات ومضايقات سلطة البعث واجهزة مخابراتها برغم مغادرته العراق ، اذ راحت هذه الاجهزة تقتفي اثره اينما يحل وتقام له فعاليات شعرية ويورد المؤلف تفاصيل ماجرى من قبل سفارة النظام في كل من الجزائر وباريس كما يأتي على محاولة اختطافه في اثينا من قبل اجهزة مخابرات صدام والتي تم خلالها زرقه بأبرة مخدرة بغية شحنه بصندوق لبغداد لولا ذكائه ومشاغلته لمن بقي حارسا عليه اذ تمكن من الافلات واللجوء للسفارة الليبية .
الحق المؤلف ثلاث مقالات مهمة تناولت تجاربا بارزة في التراث والغناء الشعبي العراقي وهي : فدعة خنساء الفرات، الحاج زاير وتأسيس فن ، سعدي الحديثي ربابة الفرات العالي.
كما تضمن حوارا موسعا اجراه المؤلف مع الشاعر النواب اثناء اقامته بالعاصمة الالمانية برلين ١٩٩٥ .
كما نشر المؤلف قصائد للشاعر مترجمة للغة الانكليزبة فضلا عن ترجمة باللغة الكردية لقصيدة ( البراءة.
كتاب الهنداوي وعبر صفحاته البالغة ٢٢٢ شهادات ودراسات حية في تجربة النواب تبلغ اعالي الحقائق.