علي حسين
قبل أكثر من نصف قرن، شاهد العراقيون من على شاشة تلفزيونهم الأبيض والأسود، الشاعر المصري أحمد رامي الذي ارتبط اسمه بكوكب الشرق أم كلثوم، وهو يلقي بمعطفه في الهواء منتشيا بصوت المطرب محمد القبانجي يشدو: "أنا المغني في كل نادي..
دوما أنادي تحيا بلادي.. أنا المغني بنغمة شرقية.. أنا العراقي نفسي أبية". لم يتكرر مشهد أحمد رامي بعد ذلك حيث دخل العراق في متاهات الخوف، فيما أصبح محمد القبانجي من الماضي لا أحد يتذكره في مولده ووفاته، فالبلاد مشغولة اليوم بمعركة المناصب، وكانت من قبل منشغلة بمعارك المصير.
عاش محمد القبانجي مغرماً بما يغني ، يعتقد أن الأغنية والفن سيصنعان بلداً يكون ملكاً للجميع، ومجتمعاً آمناً لا تقيد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يحرس استقراره ساسة يسرقونه كل يوم، عاش أسير للقصائد التي يعشقها، متنقلاً في الألحان، لينتهي بالنسيان .
لم يكن محمد القبانجي يُدرك أنه سيوحد العراقيين بأغنياته، وأن عيونهم ستدمع كلما يسمعونه ينشد قصيدة بغداد للشاعر خضر الطائي: "سلام على دار السلام جزيل وعتبى على أن العتاب طويل أبغداد لا أهوى سواك مدينة ومالي عن أم العراق بديل".
ومثلما ارتبط معطف أحمد رامي بلحظة متوهجة من لحظات العراق، فقد ارتبطت أم كلثوم بشاعرها رامي الذي كتب لها 147 أغنية تعادل قاموساً من قواميس العشق.
نتذكر "معطف أحمد رامي" وقصيدته عن بغداد: إيه بغداد والليالي وكتاب .. ضم أفراحنا وضم المآسي ..عبث الدهر في بساتينك الغناء ..والدهر حين يعبث قاس ، حين نجد من يسخر من تاريخ بلاده، ويصر على أن بغداد لا تستحق ان تصبح مدينة مثل ابو ظبي والدوحة والقاهرة ، دع عنك سنغافورة وطوكيو ، فهذه مدن لشعوب " كافرة " ، فنحن نعيش في ظل أحزاب "مؤمنة" تؤمن بان الصبر جميل .
نكتب عن الماضي ونتأسى عليه، لأن الجديد الذي نعيشه بلا لون ولا طعم، ونبحث عن الذين صنعوا لنا الفرح، لأن الذين نعيش معهم اليوم لا يجلبون لنا سوى الهم والغم.
مات محمد القبانجي بعد أن أثقلت حياته الأفراح والمسرات، اختبأ وراء جدران الفن، لكن أغنياته ظلت تطل علينا توزع الفرح والأمل وتحيي الشجن في القلوب التي يراد لها اليوم أن تعيش مع الاحزان .. ومثله مات تلميذه ناظم الغزالي الذي مرت ذكرى ميلاده المئوية دون ان يلتفت اليها احد ، فلا مسؤول ثقافي تذكر صاحب " فوك النخل " ولا محطة فضائية خصصت للذكرى برنامجا اسوة بما تقدمه كل يوم من اغنيات مشعان الجبوري وابو مازن وكورس دولة " الكراسي...