لقد برز المرحوم (فهمي المدرس) على مسرح السياسة العراقية كوجه وطني لامع سواء في الوظيفة او خارجها.. بل كان وهو في الوظيفة لايقل حماسة واندفاعا في مشاعره الوطنية واداء رسالته وهو بعيد عنها ككاتب من ابرز كتاب المقالة السياسية في تاريخ الصحافة العراقية.
ولعل من اهم المواقف السياسية التي عبرت عن شجاعته وجرأته وشعوره بمسؤوليته كرجل حريص على حقوق بلاده.. هو موقفه من المعاهدة الاولى التي اتجه إلى دار الانتداب البريطاني بعد اخماد الثورة العراقية وتتويج فيصل ملكا على العراق، الى فرضها على الشعب العراقي وتكبيله بقيودها وسلاسلها. وفي هذا الوقت كان المدرس يتولى مركز رئيس الامناء في البلاط، فراح يعارض هذه المعاهدة، ويؤلب الشعب والصحافة ضدها، برغم ان الجو الذي كان يسود البلاط يميل الى اسنادها واقناع المترددين عليه من نواب وصحفيين بضرورة عقدها. وكان سكرتير فيصل (رستم حيدر) مع زمرة من اولئك الموظفين تسعى وراء هذا الهدف. ومنذ اليوم الاول الذي دخل فيه المدرس الى البلاط والصراع بينه وبين تلك الكتلة يشتد حول المعاهدة، تارة ويخفت طوراً اخر.. وقد شعرت دار الانتداب ان وجود هذا الرجل الشديد الصلة بالمراكز الوطنية والشعبية، قد يعرض سياستهم الى الخطر وانتهزوا اول فرصة سنحت وطالبوا بعزله عن وظيفته متذرعين بحادثة وقعت في 23 اب عام 1922 واعتبروه مسؤولا عنها. وخلاصة ذلك الحادث: ان تظاهرات شعبية قامت في ذلك التاريخ بمناسبة مرور عام على تتويج فيصل تطالبه باقالة وزارة النقيب ومعارضة ابرام المعاهدة.. وبينما طلع فهمي المدرس يستقبل باسم فيصل هذه التظاهرات اقبل السير برسي كوكس المندوب السامي بسيارته ونزل منها ليشق طريقه بين الجماهير المحتشدة الى البلاط وليقدم التهاني... فتعالى هتاف في هذه اللحظة بسقوط الانتداب البريطاني فامتقع لون السير برسي كوكس غضبا واسرع بعد ان ادى المراسيم عائدا الى مكتبه، وما ان وصل اليه حتى ارسل احتجاجا شديد اللهجة يطلب فيه اقالة المدرس وابعاده عن مركزه. ومع ان المدرس لم يكن له يد فيما وقع الا ان دار الانتداب كانت تتربص الفرصة المناسبة فتذرعت بهذه الحادثة والصقت مسؤوليتها به، وسرعان ما استجاب فيصل لهذا الطلب. وانصرف (فهمي المدرس) بعد ذلك الى الحقل الوطني فاسهم مساهمة فعالة في توجيه الرأي العام وتبصيره بحقائق الامور وتشجيعه على التمسك بحقوقه الوطنية، فنذر قلمه للدفاع عن اهدافه وامانيه في الاستقلال والتحرر الوطني، فكانت مقالاته تعبر عن مشاعر الشعب وتنزل على رؤس الفئات الحاكمة نزول الصاعقة بما تنطوي عليه من تهكم لاذع وسخرية مريرة، وبما تكشف عن مفارقات وفضائح!وكانت الصحف الوطنية تتسابق في العناية بمقالات المدرس وتنشرها على صفحاتها الاولى مذيلة باسم (الكاتب العراقي الكبير) وهو اللقب الذي منحته الصحافة العراقية له، فاصبح مقرونا باسمه يعرفه الخاص والعام ولم يسلم الرجل من بطش السلطات التي ضاقت ذرعاً بقلمه فلم ترع لشيخوخته اية حرمة وابعدته في شتاء قارس البرد الى منفى بعيد عن اهله واسرته واصحابه حيث امضى فيه هذا الشيخ اسوأ ايامه واحلك ساعاته. وقد قام الرأي العام العراقي لهذا الاجراء وقعد.. وبادر يضغط على الهيئات والاحزاب فهبت الاحزاب الوطنية المعارضة تدافع عن كاتبها الذي طالما وضع قلمه تحت تصرفها وجرده للدفاع عن مطاليبها واهدافها فاحتج حزب الاخاء الوطني على ذلك. واسرعت الصحف الوطنية تحبر المقالات وتكتب الافتتاحيات وتنظم حملة تطالب بعودة المدرس. وانبرى بعض الاحرار وفي مقدمتهم معروف الرصافي في البرمان يدافع عن زميله المدرس في هذه المحنة. واضطرت السلطات تحت ضغط الرأي العام وامام هذه الحملات التي تعرضت لها الى اعادة المدرس. في سيرة فهمي المدرس صفحات لامعة وجوانب مشرقة حري بالجيل الجديد ان يقرأها في كتاب يتناول تلك الصفحات ويجلو ما فيها من جهاد وكفاح وان يطالعها في سفر يعرض لتلك الجوانب بما يكشف عن الدور الذي لعبه (المدرس) في خدمة البلد وما بذله في سبيله من جهد وعناء..فعسى ان يجرد احد كتابنا قلمه ليعرض سيرة المدرس في كتاب يضعه بين ايدي الجيل الجديد. ولعل احسن عمل يقام به تحية للرجل في ذكراه ووفاء لكفاحه وتثمينا لدوره، هو المبادرة الى جمع ما خلفه سواء من كتب طبعت منذ زمن بعيد بحيث اصبحت الان نادرة او مقالات ومحاضرات متفرقة هنا وهناك في بطون الكتب والمجلات والصحف او ما تركه من مخطوطات لاتزال حبيسة صناديق حديدية تنتظر من يخرجها الى النور وينشرها جميعا في كتاب او اكثر!rnجريدة الحرية 15 اب عام 1969
أسهم فقيد العراق المدرس في الحفل الوطني مساهمة فعالة في توجيه الرأي العام
نشر في: 20 يونيو, 2010: 04:44 م