د.عبد العظيم السلطاني في الحادي والعشرين من حزيران من عام 2007 ـ أي قبل ثلاث سنوات ـ رحلت نازك الملائكة عن عالمنا المادي، وكان رحيلها هادئا صامتا ، من يتأمله يستشعر فيه كثيرا من الألم، ويجد فيه كثيرا من العبر.
فقبل ستين سنة لم يكن أحد ليصدق أن المرأة ـ نازك الملائكة ـ التي حرّكت راكد الثقافة العراقية وأثارت ما أثارت من سجال وجلبة... سترحل بكل هذا الهدوء والصمت ، بعيدا عن الأهل والوطن، الوطن الذي كان في حينها مشغولا بحروبه ناسيا نازك وغيرها، وحين كان الأهل غارقين بدمائهم وعويل الأيتام ...في عام 1947 ألقت نازك أول أحجارها في راكد القصيدة التقليدية ، فكانت قصيدتها ((الكوليرا)) زائرة جديدة على الثقافة العراقية ، ترتدي حلّة جديدة ، يقوم أساس طرازها على مساحة مضافة من الحرية تكسر هندسة الأبيات ذات الأشطر المتساوية والشكل الهندسي المغلق. لتقدم قراءة جديدة لعلاقة شكل القصيدة الجديدة بالمكان والزمان الجديدين.وجاء عام 1949 لتكتب نازك مقدمة نقدية لديوانها ((شظايا ورماد)) ، الذي ضم قصائد متنوعة كانت ((الكوليرا)) ذات الشكل الجديد من بينها. وجاءت مقدمة الديوان نقدا ثائرا على الراكد داعيا إلى لغة جديدة تقيم علاقة عشق وانسجام مع الزمان الذي تحيا فيه، وعلاقة حميمة مع المكان الذي تسكنه.يكمل ثلاثية الدعوة للجديد هيأة نازك وسلوكها في الحياة ، إذ قدّمت صورة الجسد ((أيقونة)) تشرح موقفها في الحياة وتحرّض غيرها على المعاصرة والمواجهة والتجديد، فكانت امرأة عصرية في هيأتها وفي طموحها وفي تعبيرها عن ذاتها الفردية تعبيرا عفويا وإن كان لا يخلو من تحريض مضمر. فهي طالبة في كلية الآداب تدرس اللغة العربية وطالبة مستمعة تدرس اللغة اللاتينية ولها حظ في تعلّم اللغة الانكليزية .. وطالبة تدرس الموسيقى ومتدربة على فنون المسرح والإلقاء ...إنها إيقونة الطموح المفتوح والطاقة الخلاقة...هناك على مشارف نهايات النصف الأول من القرن العشرين كانت نازك تنسج ثلاثية الإنجاز الثقافي الجديد، في القصيدة والنقد وهيأة الجسد، لتكون أنموذج الإنسان العراقي(المرأة/الرجل) في سعيه إلى الحياة حين يتاح له الحد الأدنى من فرصة التعبير عن الذات تعبيرا متوازنا ومسؤولا.كُتب عن نازك الكثير في حياتها ، فكانت كتبا وأبحاثا ومقالات... وكانت أسباب المكتوب متعددة؛ فهذا مثقف وجد في نفسه حاجة ثقافية أدبية لأن يكتب عن نازك ومنجزها فكتب، وهذا باحث ساع إلى بحث ينال به درجة علمية فكتب، وذاك باحث حرّضه على الكتابة عنها دعوة استكتاب وجهتها مؤسسة أو جهة من الجهات... ولعل في بعض ذلك المكتوب ما أشبع بعض تطلعات ذات نازك ورغبتها في أن ترى اهتمام الآخرين بها باديا، وفي أن ترى تقدير الآخرين لها قائما. ولكن مما لاشك فيه أننا اليوم وبعد رحيل نازك نجد أنفسنا بأمس الحاجة إلى الحديث عن نازك ومنجزها، وفينا حاجة شديدة إلى استحضار الموقف الثقافي الذي وقفته قبل ستين سنة. فثقافتنا اليوم تواجه مأزقها ونحن في حاجة إلى الحديث عن نازك أكثر من حاجة نازك لحديثنا عنها حين نذكّر الأحياء بها. فبعض الأموات حققوا ذواتهم ورحلوا وفي أنفسهم كثير من الرضا عن الذات، وكانوا في موتهم أكثر حياة من الأحياء، لأنهم غرسوا غرسا عصيا على الموت.
في الذكرى الثالثة لرحيلها..نازك الملائكة.. ألقت أول حجر في راكد القصيدة العربية
نشر في: 20 يونيو, 2010: 04:56 م