لطفية الدليمي
كلّنا نشهدُ التفجّر المعلوماتي وطوفان المنشورات الورقية والألكترونية التي أصبحت مثل تسونامي لايهدأ. يرى البعضُ منّا العناوين الجديدة ويغص بالحسرات ؛ فيتساءل: لماذا لم يكن متاحا لنا ولو شيء يسيرٌ من هذه الموجة العاتية من المطبوعات قبل أربعة أو ثلاثة عقود؟
لكنّ هذا هو حالُ الدنيا وبعضُ أفاعيل التقنية فيها، وقد يكون بعضُ عزائنا أننا لسنا وحيدين فيما نشعر. معظم بني الأرض يماثلوننا في هذا حتى هؤلاء الذين يعيشون في مواطن صناعة التقنيات المستجدة التي يسّرت صناعة النشر على كلّ الوسائط المتاحة.
قد يصابُ بعضنا بالعجز والخذلان إذ يرى هذه المنشورات على موقع الأمازون مثلاً ؛ فيتخذها تَعِلّة لكي ينصرف عن القراءة ولسانُ حاله يحدّثه: ماعساي أن أقرأ أو أترك ! لقد فاتني القطار، وبدلاً من سعيي لمعالجة العوز القرائي في الماضي، أصبح الحاضر عبئاً عليّ. هذه مناورة العاجزين الذين سيجدون ألف سبب وسبب لكي يمكثوا في اللامبالاة ويعيشوا كل يوم بيومه جرياً على الأمثولة المحبطة (إنْ هي إلا أيامٌ ستنقضي بعد حين).
ليسوا قليلين هؤلاء الذين يتفكّرون في تنويع قراءاتهم خارج نطاق دراستهم الأكاديمية. يسعون للإطلاع الجاد على شتى ضروب المعرفة ؛ لكنّ مايخذلهم هو الإفتقاد لرؤية عملية منتجة في آلية اختيار مايُقرأ. تراهم يؤكّدون على نوع واحد (الرواية مثلاً) ويهملون سواه، أو قد تستهويهم ملاحقة الإعلانات الصاخبة عن كتب حقّقت ملايين المبيعات. قرأتُ مرّة نسخة ألكترونية من كتاب عنوانه (إبقَ قوياً) يمكن تصنيفه تحت عنوان كتب التنمية الذاتية فوجدته كتاباً رقيعاً يعتمدُ الترويج الفجّ واللعب على قلّة خبرة اليافعين الذين يتوجّه إليهم بخطابه المصمّم بأساليب نفسية مدروسة تنطوي على الكثير من التخابث والخداع.
ليست هذه معضلتنا وحدنا في منطقتنا العربية. نحنُ في النهاية جزء من هذا العالم، ومايحصلُ لنا من متاعب ومشاغل فكرية لابدّ أن يحصل لأمثالنا في كل مكان. إنتبهت كبريات الجامعات العالمية العريقة إلى هذه المعضلة المتفجّرة ؛ فراحت تتفنّنُ في إنتاج سلاسل من كتب مختصرة عن كلّ حقل معرفي، وقد سبق لي أن ذكرتُ العديد من هذه السلاسل في مقالات ومنشورات سابقة.
واحدةٌ من تلك السلاسل التي إستهوتني كثيراً هي السلسلة المسمّاة (تواريخ مختصرة Little Histories) التي تنشرها جامعة ييل Yale الأمريكية المرموقة، وهي إحدى جامعات النخبة الأمريكية. دأبت هذه الجامعة على نشر تواريخها المختصرة في موضوعات رئيسية منها: مختصر تأريخ كلّ من: العالَم والعلم والشعر والأدب والولايات المتحدة والاقتصاد، والفلسفة والدين والأركيولوجيا (علم الآثار) واللغة. تعتمدُ هذه التواريخ مقاربة واضحة: تجزئة كلّ موضوع إلى أربعين فصلاً قصيراً لايتجاوز الواحدُ منها العشر صفحات، ثمّ كتابة كلّ فصل ليكون أقرب إلى سردية شيقة مكتملة ذاتياً رغم أنها تمثلُ إستمرارية في طبيعة الموضوع العام، من غير إثقال الكتاب بإحالات مرجعية كثيرة تمثلُ ألغاماً تنفّرُ عامة القراء وتصدّهم عن مواصلة القراءة.
لاأعرف السبب الذي جعل القيّمين على هذه السلسلة الرائعة يكتفون بهذه العناوين ؛ لكن حتى لو توقّفوا عن نشر المزيد فقد فعلوا خيراً كثيراً بنشر هذه التواريخ المختصرة التي تُرجِمَ معظمها إلى العربية، وأرى أنها تمثلُ إضافة مهمّة في الحصيلة الفكرية لكلّ قارئ أعياه التفكير بنوعية الكتب التي ينبغي أن يقرأها وهو يواجه هذا الدفق الهادر من الكتب.
هذه التواريخ المختصرة منجاة من الغرق في لجّة عميقة من اليأس لمن يسعى - من اليافعين والشباب بخاصة - لقراءة مثمرة خارج نطاق دراسته الأكاديمية ولايعرف بأي الكتب يبدأ رحلته في عالم القراءة.