عبد الله المدنيالأمم الحية هي تلك التي لا تقف في مكانها جامدة متفرجة، وإنما تتحرك وتتفاعل مع الأحداث، وتضع لنفسها ستراتيجيات قصيرة المدى وأخرى متوسطة وبعيدة، بل هي التي تعيد حساباتها وخياراتها من وقت إلى آخر طبقا لمقتضيات الحال، و تبدل الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية، حتى وإنْ اضطرت إلى إعادة صياغة ستراتيجياتها كاملة.
وإذا كان هذا الكلام ينطبق على أمم حية كثيرة، فإن أبرزها بلا شك هي الصين، التي تراقب جيدا، وتستخلص الدروس بدقة، وتغير خياراتها، وتعيد رسم سياساتها الداخلية والخارجية من وقت إلى آخر كي تتلاءم مع أوضاع عالم يتغير بسرعة صاروخية في كل ميدان.حدث ذلك في السبعينيات والثمانينيات بعد الانفتاح على الولايات المتحدة والغرب، وحدث لاحقا في التسعينيات بعيد سقوط الإتحاد السوفيتي، ويحدث اليوم مجددا في ظل بروز قوى عملاقة منافسة تتقدمها الهند واليابان والإتحاد الأوروبي، وربما روسيا.على أنه برغم كل ما بلغته الصين من تقدم علمي وقوة اقتصادية وشأن عسكري في العقود الأخيرة، فإنها إلى اليوم لم تحدد لنفسها وصفا دقيقا. بمعنى هل هي دولة نامية أم متقدمة؟، قطب عالمي أم قطب إقليمي؟، بلد صناعي أم زراعي؟،قوة عالمية أم قوة شبه عالمية؟فالقيادة الصينية المعروفة بالذكاء والحذر – شأنها في ذلك شأن الصينيين عموما – تتردد مثلا في إضفاء صفة الدولة العظمى على بلادها مؤكدة: "أن الولايات المتحدة ستبقى وحدها - برغم كل أزماتها الحالية - القوة الأعظم في المدى المنظور" ومكيفة سياسات الخارجية وفق هذه المعادلة. وبالمثل فإن قادة بكين لا يعتبرون الصين – برغم صعودها الاقتصادي المطرد المعروف - قوة إقليمية عظمى في ظل وجود دول في المنطقة لا تقل أهمية وقوة وصعودا مثل الهند واليابان. أما إذا أتينا إلى صفة "النامية" التي ظل المعلم "ماو تسي تونغ" وخلفاؤه حريصين على إسباغه على بلادهم لحقبة طويلة بهدف التقرب من الدول المتخلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ناهيك عن هدف تخويف هذه الدول من الخصم الإيديولوجي السوفياتي، فإن صين اليوم تحت قيادة "هو جينتاو" لا تزال متمسكة بهذه الصفة، وإنْ لأهداف أخرى مثل تسهيل عملية تمددها في القارة السوداء للاستحواذ على مصادر الطاقة ومكامن التعدين دون حساسيات.والحقيقة - في رأي الكثيرين من محللي ومتابعي الشؤون الصينية – أن الصين، بغض النظر عما يقوله قادتها في خطبهم وتصريحاتهم ومؤتمراتهم الحزبية، هي دولة عملاقة تجمع كل مؤهلات البروز كقوة عظمى يوما ما. ونقول يوما ما لأنه لا يمكن التكهن بدقة حول الزمن الذي ستحتاجه القيادة الصينية لمعالجة المشاكل الداخلية من تلك التي لا تليق بدولة تتبع أسمها كلمة "عظمى"، ونعني بتلك المشاكل قضايا مثل "الانفتاح السياسي"، و"الحريات المدنية"، و"النظام المصرفي المتين"، و"الوحدة الوطنية الراسخة"، و"النمو المتوازن ما بين الحواضر والمناطق النائية"، و"الحد من الفساد والتسيب". وبطبيعة الحال، فإن الذين حددوا خمسين عاما، كفترة زمنية قصوى تعالج الصين فيها القضايا المذكورة، سرعان ما تراجعوا عن جملتهم الشهيرة "سوف يشهد العالم بروز الصين كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة بحلول عام 2050".ربما يحتاج ما ذكرناه في الأسطر السابقة إلى شيء من التفصيل. صحيح أن الصين نجحت في أن تتحول منذ منتصف العقد الجاري إلى ثاني أكبر قوة جاذبة للاستثمارات الأجنبية (بعد الولايات المتحدة)، كما نجحت في فتح أسواق العالم أمام صادراتها المتنوعة (مثلا زادت تجارتها مع العالم العربي من 36.4 بليون دولار في عام 2004 إلى 107.4 بليون دولار في عام 2009)، وفي تحقيق معدلات نمو تراوحت ما بين 9 – 10 بالمئة خلال العقدين الماضيين (أي أكثر بكثير من معدلات سائر الاقتصاديات الكبرى في العالم)، فأصبحت بالتالي رابع أكبر دولة في المبادلات التجارية، وثاني أكبر مستورد للنفط، وثالث أكبر سوق للمركبات على مستوى العالم، وثاني مالك لأضخم الاحتياطيات النقدية الأجنبية إلى جانب اليابان. وصحيح أن الصين صارت تنتج من الصلب ما يفوق إنتاج دول الإتحاد الأوروبي مجتمعة بعشرين مرة. وصحيح أنه من بين كل عشرة أكياس من الأسمنت ينتج في العالم تستهلك الصين منها أربعة أكياس في ورشة الإعمار والإنشاءات التي لا تهدأ، إلا أن الصحيح هو أن كل هذه الإنجازات الباهرة أفضت إلى ظواهر سلبية، بمعنى أنها وضعت الصين أمام تحديات جديدة. فالتوسع في التصنيع كان على حساب الزراعة، الأمر الذي سيجعل البلاد عاجلا أم آجلا مضطرة لاستيراد الطعام، خصوصا في ظل عدد السكان الضخم(أكثر من 1.5 مليار نسمة)، وبقاء معدلات المواليد السنوية على حالها، كما أن التوسع في التصنيع، معطوفاً على تحسن الدخول، وبالتالي التوسع في استخدام الطاقة أدى إلى حدوث مشاكل بيئية خطيرة وغير مسبوقة. وتحسن الأحوال المعيشية كنتيجة لزيادة معدلات النمو في مختلف القطاعات حوّل البلاد منذ عام 1993 من دولة مكتفية ذاتيا في الطاقة إلى دولة مستوردة لها، بل دولة يزداد فيها الطلب على الطاقة
كيف ترى الصين نفسها؟
نشر في: 20 يونيو, 2010: 05:20 م