TOP

جريدة المدى > عام > إِرْث محمد مكية المعماري

إِرْث محمد مكية المعماري

نشر في: 30 يناير, 2022: 11:22 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

صدر، مؤخرا، كتاب باللغة الانكليزية بعنوان "محمد مكية: معمار حداثي يجدد التقاليد الاسلامية" Mohamed Makiya, A Modern Architect Renewing Islamic Tradition, لمؤلفته الصحفية "كارين دابروفسكا" Karen Dabrowska.

والكتاب اياه الذي جاء بـ 232 صفحة من القطع الصغير، صدر في لندن سنة 2021 عن دار الساقي Saqi. وهو كما واضح من عنوانه، يتناول سيرة المعمار العراقي الرائد والحداثي الدكتور محمد مكية (1914 - 2015)، ومنجزه التصميمي بكونه منجزاً لافتاً في الخطاب المعماري العراقي والاقليمي. وتأتي اهمية منجز محمد مكية، من خلال تصديه لإشكالية "التراث والمعاصرة" بمقاربة تصميمية نراها جد صائبة مثلما كانت حداثية تعمل ضمن سياق التوجهات الحداثية العالمية، ما اكسبها قيمة مضافة. والمؤلفة تسعى في كتابها المهم الى تكريس اهمية هذا الاتجاه التصميمي والاشادة بثماره العديدة التى تجسدت من خلال تصاميم عمارة مكية المميزة، وعبر تبني كثر من المعماريين لذات النهج الطليعي في تفسير تلك الاشكالية النظرية التى جابهتها الممارسة المعمارية العالمية منذ نشوء وبلورة توجهات الحداثة المعمارية في مطلع القرن العشرين وقبله بقليل.

تشي محتويات الكتاب الذي اعدته "كارين دابروفسكا" بعناية كبيرة، بجعل قارئ كتابها يطلع على مسار المعمار العراقي الحياتي والمهني، مع اضافة ملاحق تُعنى بنشر المزيد من المعلومات عن ثيمة الكتاب. فهي تبدأ كتابها من <صبابيغ الآل>: المحلة البغدادية العريقة، حيث ولد المعمار وترعرع في طفولته هناك، لتتناول بعد ذلك دراسته في ليفربول المدينة الانكليزية التى درس فيها معظم رواد العمارة العراقية، من احمد مختار ابراهيم مرورا بجعفر علاوي ومدحت على مظلوم وكذلك عبد الله احسان كامل وسامي قيردار وغيرهم. بعد ذلك تعرج المؤلفة على نشاط مكيه المهني بعد رجوعه الى بلده العراق، ومن ثم تأسيس مكتبه الاستشاري الذي اضطلع بالقيام في تصاميم جد لافتة في الستينات، مؤسسا لمقاربة معمارية حاولت ان تمزج التراث المعماري الاسلامي وتقرنه مع اشتراطات الحداثة وقيمها المعاصرة عبر تأويل مقتدر، اثرى بنتاجه التصميمي المشهد المعماري العراقي والاقليمي على حدِ سواء، كما اتينا الى ذلك قبل قليل. كما تشير المؤلفة الى جهد محمد مكيه مع زملائه في تأسيس القسم المعماري بكلية الهندسة في جامعة بغداد عام 1959، بكونه اول مدرسة معمارية عراقية، مع التذكير باهم تصاميمه في الستينات وعلى رأسها، تصميم "جامع الخلفاء" في منطقة سوق الغزل سنة 1963. ثم تأتي المؤلفة على ذكر نشاط مكتبه الاستشاري خارج العراق بعد ان أُجبر على الخروج من بلده العراق في نهاية الستينات، وتذكر من بين تصاميمه المهمة في تلك الاوان تصميم مسجد الكويت الكبير ومسجد السلطان قابوس في عمان. وتفرد الكاتبة صفحات من كتابها مكرسة الى نشاط "ديوان الكوفة" او ما عرف بـ "غاليري الكوفة"، وهي المؤسسة الثقافية التى أنشأها المعمار العراقي المعروف المعنية بنشر الثقافة العراقية بكل تجلياتها المعرفية في اوساط مختلفة من العراقيين والعرب والاجانب الساكنين في لندن والمهتمين في حضارة منطقة الشرق الاوسط. وقبل ان تنهي مفردات محتويات كتابها بالحديث عن "إرث محمد مكية"، تنوه الكاتبة الى فقرة "الخلاف والمصالحة"، وتشير الى مشاهد من انشطة وانشغالات المعمار في الفترة الاخيرة من حياته، واضعة جملة "انا قائد فرقة موسيقية من دون اوركسترا!"، وكأنها بذلك تستعير مقولته تلك لتبيان نوعية وطبيعة الاحداث المختلفة وإزمنتها المتنوعة التى مرّ بها المعمار سواء على الصعيد الشخصي ام العائلي ام المهني.

تنشر المؤلفة في نهاية كتابها ملاحق عديدة تخص سيرة محمد مكية بضمنها ملخص لاطروحة المعمار "العمارة ومناخ البحر الابيض المتوسط" التى حصل عليها على شهادة الدكتوراه من كلية "كينغس كولج" في كمبردج في 1946، وكذلك محاضرته "العمارة في الماضي والحاضر" التى القاها في رابطة المعماريين البريطانيين 1984، واخيرا تنشر في ذلك الملحق، نص الرسالة التى وجهها مكية الى المجتمعين بمناسبة مئويته التى عقدت في بغداد عام 2014.

في الكتاب ثمة مقولات كثيرة وتصاريح عديدة تعود الى اصدقاء محمد مكية ومعارفه من العراقيين والاجانب الذين عرفوا المعمار عن قرب والذين عملوا معه يوما ما في مكتبه الاستشاري. ومن ضمن تلك الاسماء يرد اسم اكرم العكيلي في امكنة عديدة من الكتاب، بل وتنقل المؤلفة عنه مقولته التى وضعتها على غلاف كتابها من "ان محمد مكية هو بغداد، وبغداد هي محمد مكية!"كناية من العكيلي على اهتمام وشغف وحب مكية لمدينتة الاثيرة الى نفسه، ومساعيه الكثيرة في عمرانها ومنحها خيرة تصاميميه. كما توجد اشارات عديدة في كتاب "دابروفسكا" " الى كتابي <محمد مكية: قرن من العمارة والحياة> الذي صدر سنة 2014، بمناسبة بلوغ المعمار مائة عام من عمره. وتفرد المؤلفة صفحة من كتابها لتشكر ذوات عديدين قسما منهم حاورتهم المؤلفة وأخرين كتبوا لها عن انطباعاتهم عن سيرة المعمار العراقي الشهير، ومن اولئك ترد اسماء عديدة مثل علي الموسوي وحسين الهنداوي (التى تنشر غلاف كتابه عن محمد مكية في احد فصول كتابها) وصبحي العزاوي وغادة السلق ومصطفى الكاظمي وخالد القشطيني وزينة علاوي ورشيد الخيون ولمياء الكيلاني وطبعا كنعان مكية وهند مكية وآمال مكية وغسان مكية ونسيم مكية وآخرين سواء كانوا عراقيين ام اجانب.

في كتابها الذي نعرض له هنا، تسعى المؤلفة وراء اصطفاء "تعابير" او "جمل محددة، تدلل بها عن خصوصية فصول كتابها وما يمكن ان تشي به من "سرد" لنصوص ذلك الفصل. فعندما تنوي المؤلفة الحديث في الفصل الاول من كتابها عن طفولة محمد مكيه وعلاقته بحيّه البغدادي المعروف "صبابيغ الآل"، فانها تستعير "مقولة" من حديثه، لتكون "ترويسة" ذلك الفصل. فعن هذا الفصل تختار ما يلي".. لم اضطر مطلقا القراءة عن مدن العصور الوسطى، لاني، ببساطة، عشت في واحدة منها..وتأثرت كثيرا فيها، فانا بغدادي قح، وانا افكر بها طوال حياتي!" وعن ترويسة الفصل السادس المكرس لجمعية الفنانيين العراقيين، الذي رأس مكيه في الخمسينات ذلك التجمع الفني، تختار المؤلفة جملة من حديث مكيه نفسه عندما يقول " كنت غريبا عنهم (عن الفنانيين العراقيين في الخمسينات)، لاني لم اكن رساماً، وكانوا يعتقدون بان الرسم وحده هو الفن. في حين كنت اؤمن بالفن التطبيقي، الذي نظروا اليه بازدراء. بالنسبة اليّ كان <النجار> و<الحداد> فنانيين بامتياز!". وعن "جملة" الفصل العاشر الخاص بمكتب "مكية ومشاركوه" في المهجر، تثبت المؤلفة التعبير الآتي"... لا تعني البتة من ان <استمرارية التراث> ينبغي ان تعيش في الماضي. ذلك لان السؤال المهم هو كيف ان تعيش في الحاضر، مستلهما التراث، ومتطلعا لمستقبل افضل". وهكذا تضع المؤلفة مختلف المقولات التى تعود سواء الى مكية نفسه او الى احد اصدقائه، والتي يراد بها عكس فحوى سرديات فصول الكتاب..

لقد قدمت لنا "كارين دابروفسكا" سيرة لمعمار عراقي رائد مكتوبة في لغة بسيطة ومفهومة لدى قراء في أوساط متنوعة ذات ثقافات مختلفة، وقدمته كمعمار ارتبط اسمه في تقديم مقاربة مميزة ولافته لاشكالية "التراث والمعاصرة" التى بدأت بالظهور بصورة مؤثرة في الخطاب المعماري العالمي منذ الستينات، حينما بدا واضحا قصور "التيار الدولي" ومناهج "العمارة الحديثة" الاخرى في تلبية المتغيرات المتسارعة في الذائقة الجمالية التى انتشرت ليس في المجال المعماري لوحده وانما في عموم التيارات الفنية والثقافية في ذلك الآوان. وبكون " دابروفسكا" صجفية متمرسة (هي المولودة في نيوزيلاندا)، فانها اصدرت كتبا عديدة، بضمنها كتب عن منطقة الشرق الاوسط وقضاياه الآنية المتنوعة مثل كتاب " دليل الجيب لعاصمة اثيوبيا" وكتاب "نحو الهاوية: انتهاكات حقوق الانسان في البحرين وقمع الحراك الشعبي من اجل التغيير". كما اصدرت كتابا اخراً بعنوان " الثورة الليبية: يوميات فتاة اخبار القذافي في لندن". وقد عملت "كارين دابروفسكا" لسنين عديدة كسكرتيرة الى رئيس جمعية سودانية خيرية اسسها احد المحسنيين السودانيين في لندن وهو <الشيخ ابراهيم الطيب الريح>. وبالمناسبة فن كتابها عن "سيرة محمد مكية"، الذي نعرض له هنا، مهدى الى ذكرى هذا المحسن الذي توفي سنة 2017 والى عائلته.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Anonymous

    عرض مميز...لكاتب وكتاب بغاية الاهمية...اتمنى من دار المدى ترجمة الكتاب..ليكون اضافة مهمة للتراث المعماري العراقي..وللراحل الكبير د. محمد مكية

يحدث الآن

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

62 حالة انتحار في ديالى خلال 2024 بسبب "الربا"

أزمة جفاف الأهوار.. الأمم المتحدة تؤكد دعمها و«الموارد» تتحدث عن برامج لاستدامة تدفق المياه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram