فاروق مصطفى
في كتاب «حي السماوات السبع» للشاعر حسام السراي، نقع على مطولة شعرية نسجها على تداعيات رحلة قام بها من العراق إلى الولايات المتحدة،
وبالتحديد إلى كبرى مدنها (نيويورك)؛ هذه المدينة المحمومة التي يدب في شوارعها ملايين البشر ومن مختلف أجناس المعمورة. وبعد رحلة جوية استغرقت ثلاث عشرة ساعة يقطع الشاعر بحر الظلمات وأعني المحيط الأطلسي، تحط به الطائرة في مطارها الأشهر (جون أف كندي) وتتسلم أوراقه شرطية سمراء من أصول افريقية. ومن الطبيعي أن يقارن الشاعر بين العالمين، العالم الذي قدم منه بغداد ودوائر أحزانها والعالم الجديد الذي تعكسه (نيويورك) وتمثال الحرية الضخم الذي يحرس بوابتها، وهو مأخوذ بكل هذه الصور الجديدة التي تتحرك أمام باصرتيه من غير أن يستطيع نزع نفسه من العالم الذي جاء منه، فغيوم الدهشة تعصره متملياً الصور الجديدة التي يشاهدها، يقول في صفحة 6:
«أنت مأخوذ بصورة أمامك
يبتلعك فمها
في وقتٍ مستقطع ومساحة
قالت لك الدهشة: إنك تُخلَقُ بينهما الآن»
وقبل أن يسوق الشاعر (السراي) مطولته عن نيويورك سبقه في ذلك أسماء شعرية (أدونيس وسعدي يوسف وسركون بولص)، وسبق هؤلاء الشاعر الاسباني المقتول فديريكو غارسيا لوركا الذي قَدِمَ إلى هذه المدينة الساخنة وخاطب أحد أحيائها:
«أواه يا هارلم، أواه يا هارلم، أواه يا هارلم
ليس هناك من أسى يعادل عينيك المسحوقتين
يعادل دماءَك ترجف غاضبة داخل الخسوف المظلم
يعادل عنفك القاني الأصم الأبكم تحت ظلال الأضواء..»
كانَ مجيء (لوركا) إلى أميركا من أجل تعلم اللغة الإنجليزية فهبطها أواخر العشرينات من القرن المرتحل وزار أماكن أخرى منها ثم ذهب إلى جزيرة (كوبا) وأهدى أنشودة إلى الشاعر (والت ويتمان) وخاطبه فيها:
«ولا لحظة واحدة يا والت ويتمان
أيها الجميل الهرم غابت عن عيني لحيتك المليئة بالفراشات»
ولكن رحلة حسام السراي إلى المدينة الأميركية في العقد الثاني من قرننا الراهن وبمدة أقصر، يعلم فيها أن رحلته وراءها عودة إلى العراق، يقيم هناك في عمارة شاهقة تطول إلى ثمانية وثلاثين طابقاً وهناك ينغمر موشور ذاكرتهِ بصور تأتي من تضاريس عدة ويتأكد إنه الآن في بلاد يطلق عليها (أميركا) وتنثال صوره الشعرية:
«ومن نافذة الفندق الشاهق
في ثانية واحدة
هي زلزال يضرب ذاكرة هاربة من مصحة نفسية
تدقق في كمائن العالم وظرائفه
فتدرك الآن أنك تقيم
في حي السماوات السبع»
وبالرغم من بُعد الشاعر عن وطنه، فإنّ شاشة ذاكرتهِ تعكس صوراً تتهادى مِمّا خزنتها من قراءاتهِ أو كنزتها من المرويات التي أصغى إليها يقول:
«لأنّ الأمَّ مشغولةٌ بوحشةِ الأبيض والأسود في التلفاز
وبالمذيع يلهج بقافية الفناء: جاءَنا البيان التالي»
وبما لا يخفى على المتلقي الفطن إنها إشارة إلى الحرب العراقية الإيرانية التي التظت بنيرانها البلاد ويُشير إلى صدم برجي التجارة العالميين بطائرتين مخطوفتين عام 2001
«في نيويورك 11 أيلول 2001
طائرتان متقدتان بين السحب
أعلى فأعلى تصاعد تحليقهما»
ينظر المتلقي في هذا النص المطول الذي حمل عنوان (حيّ السماوات السبع) يفحص دالاتها ويعاين مدلولاتها ويحتفن منها ملاحظات وهوامش كالتالي:
يجد أن السفر يعري الروح كما يقول (ألبير كامو) فشفت روحه وأراد أن يخفف عنها أثقالها وشوائبها مما عَلِقَ بها من الخرائب والهزائم التي تلاحقت عليها بعد الاحتلال الأميركي، فإنّ أية صورة يقابلها في أميركا تعود به وتذكره مما تشبهها من حالات وأوضاع وأشكال.
تزيّنت القصيدة بعشرة تخطيطات للرسام المغترب (كريم رسن) وهي أعدت خصيصاً للكتاب مع رسمةِ الغلاف الأمامي، والتخطيطات جاءت كلها بعوالمها السوداوية وشخصياتها المفلطحة ملائمة لطقوس النص ومناخه.
في نهاية كل مقطع استدراك وعددها خمسة استدراكات وهي تذكرنا بتعليقات الجوقة في المسرح الإغريقي وكأنها شاهدة على ما مَرَّ وما يمرّ وتعليق على ما تحصّل من خرائب ودمار تصيب حياتنا.
(4) القصيدة مكتنزة وغنية بمجازاتها التي تثير حلية الاستطراف وزينة الاندهاش اللغوي، وهي مهارة الشاعر في استحداث انزياحات جديدة والتي تضفي على اللغة جدتها وحداثتها وبرهاننا على ذلك قوله: «صَياد كراهة»، «حكمتك المهمشة»، «تكدس النشيج على الأبدان»، «ذاكرة هاربة من مصحة نفسية»، وغيرها كثير يتوزع على تضاريس النص.
(5) زيّن الشاعر نصّه بحواشٍ ارتأى أنها تفيد المتلقي في إضاءَته وترك أموراً أخرى إلى فطنة القارئ وذكائهِ لمعرفتهِ وكشفهِ، ووردت عناوين وأسماء بالإنجليزية مَرّ عليها الشاعر في رحلته الأميركية.
ولا بدَّ من الإشارة إلى فضيلة من فضائل الشاعر أنه حقق حلم الشاعر الفرنسي (لوتريامون) في أن يرى الشعر يمشي بين الناس في الشوارع، فقد أطلق قبل سنوات مشروعاً مثيراً عندما كان يدير بيت الشعر العراقي، ألا وهو (مقاطع للمارة)، بإخراج الشعر من داخل الصالات المغلقة إلى الهواء الطلق وتقديمه في الفضاءات المكشوفة، وبهذا ضخَّ إلى جسد الشعر دماءً جديدة، والشعر هو الوحيد الذي بقي لنا نتعزى بكتابته وقراءته والإصغاء إليه في هذا العالم الذي شحَّ فيه الزاد وانحسر الجمال وقلّت الأقوات.