د. نادية هناوي
رواية الأفكار نوع سردي ظهر على يد كتّاب ومفكرين جمعوا الفلسفة بالسرد، وفيها أوكلوا للشخصية المثقفة أدوارا تنويرية وتحديثية مهمة، وبما يجعلها متأزمة فكرياً وواقعياً.
وما من سبيل لفك التأزم سوى بالتفكير الذي يتخذ بعداً درامياً حافلاً بالمشاهد والصور والحوارات، فتتعمق الصورة الفكرية للشخصية بأبعادها البانورامية الخارجية وسماتها الإدراكية الحسية الداخلية.
وقد ازدهرت رواية الأفكار مع مرحلة تفكيك المركزيات وتداخل التخصصات، ولم يعد شرطا في الشخصية المفكرة أن تكون مثقفة وتنويرية، بل يكفيها أن تتمتع بعقل حر، تعبر عنه قراءاتها وتصرفاتها وأقوالها وأحاسيسها، مفكرة بإرادة واعية ومتفاعلة مع محيطها على وفق ما يمليه عليها تفكيرها، وهي بامتلاكها نزعة التفكير تكون لها رؤية للعالم خاصة، تجعلها قادرة على التأثير في سائر الشخصيات في الرواية كأن تشاركها هي رؤيتها للعالم أو بالعكس تشاركها الشخصيات رؤاها، دافعة إياها نحو التفكير.
وعادة ما يكون الموضوع المفكر فيه مجموعة مبادئ وقيم وقد يكون متمثلا في مشاريع وتجارب تتطلب الوعي وتقتضي من الشخصية أن توظف ثقافتها بمستوياتها المتنوعة في الدفاع عن أفكارها والعمل على تبنيها كلياً أو جزئياً. وواقعية رواية الأفكار تجعلها لا تنتهج الرمزية ولا تبحث عن أهدافها بطريقة طوباوية وسريالية لأنها تنظر بمنطقية إلى ما حولها وتفكر بموضوعية في الطرق التي بها تزيل المعوقات وتقضي على الحواجز والعقبات. واندفاع الشخصية نحو التفكر في حالها وما حولها يجعلها مهيأة لأن تضع الخطط، مصممة على تحقيق أغراضها، رافضة كل ما هو سائد ومتحجر من الأفكار متطلعة إلى الحقيقة والجمال برؤية استشرافية للعالم وبروح التضحية في سبيل أفكارها، ماسكة القرار بيدها عبر تفكيرها الخاص. لا تنحاز إلى ذاتها ولا تنجر إلى الأوهام كما أنها بسبب ما لديها من قدرة على التفكير تكون ثابتة الجنان مستقرة غير متذبذبة ولا عدوانية، منفتحة الوجدان ومتقبلة للرأي المضاد وبعيدة عن التقوقع في إطر ضيقة لا تناسبها.
وإذا كان للرواية أحادية الصوت سارد موضوعي يتحرك بين الشخصيات مخضعا إياها لمنظوره الايديولوجي الذي به تنشطر العقول الاجتماعية للشخصيات داخليا ثم تتجمع خارجيا، فإن للرواية متعددة الأصوات سرادا ذاتيين يوجهونها توجيهات لسانية فتتعد الرؤى. وهو ما تريده رواية الأفكار التي فيها لكل شخصية ساردة بطولتها وخطابها الخاص وحمولتها الفكرية التي فيها تودع جلَّ مقاصدها الايديولوجية.
ومن أوائل الروايات العراقية التي توصف بأنها رواية أفكار رواية( خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان. وقد عدها الناقد الأستاذ فاضل ثامر متعددة الأصوات بينما وجد الناقد الدكتور شجاع العاني أن فيها تعدداً في الرؤى وليس الأصوات وفي شكل متوالية موسيقية سماها أسلوب المرايا بيد أن الرواية أحادية الصوت من ناحية:
1- أن حواراتها ليست تناصات لمجموعة أحداث تنسج من وجهة نظر كل شخصية. وهو ما جعل التبئير الايديولوجي للافكار ظاهرا من بعد واحد مركزي هو منظور السارد الموضوعي.
2- أن مونولوجاتها ليست حوارية بالمعنى الذي قصده باختين فلم يتمظهر الخطاب السردي بمستويات كلام اجتماعية متنوعة.
3- اتخاذ السارد الموضوعي من شخصية المثقف بؤرة سردية من خلالها تتجلى وجهة النظر الايديولوجية التي يجسدها الأصدقاء الخمسة المنتمون إلى شريحة الانتلجينيسا العراقية أبان منتصف خمسينيات القرن العشرين. والقاسم المشترك الذي يجمعهم واحد وهو الاستياء من الركود الحياتي الذي يجعل الحاضر كالماضي والقادم كالحاضر بلا تغيير أو تبدل.
وإذا كانت النظرية السردية الكلاسيكية لا تقيم فرقا بين فعل السرد مثلما ينجزه سارد تخييلي وفعل السرد مثلما ينجزه مؤلف قصة تخييلية بحسب سيلفي باترون، فإن النظرية السردية ما بعد الكلاسيكية تعيد للمؤلف سلطته بوصفه هو المفوض الذي يعطي لسارده الموضوعي سلطة على الشخصيات، وهو ما فعله غائب طعمة فرمان فلم يمنح شخصياته عقولا مستقلة تتمتع بالتحرر، أولا لعدم ثقته بالمثقف العراقي بوصفه غير مؤهل لأن يُعطى فرصة أن يتكلم بنفسه. وثانيا اقتناعه أن المثقف ما دام يعيش ضمن مجتمع تسوده قيم جماعية ترضخ للنظام والأعراف وسيادة التقاليد، فإن الشخصية التي تمثله لا بد أن تكون مستلبة، ليس لها الامكانية لأن تكون متفردة بعقلها. لذا اختار ساردا موضوعيا يتكلم عن شخصياته برؤى تنوعت لكنها توحدت، فتناسبت رؤيتها لماضيها وما عليه حاضرها وما تسعى الى تحقيقه أو التكتم عليه من تطلعاتها.
وقد حال هذا التوحد في التعبير عن الرؤى دون أن تأخذ الفاعلية التفكيرية لكل شخصية من الشخصيات مساحتها الكافية من التعبير. ولقد ظهرت من بعد رواية( خمسة أصوات) أعمال روائية عراقية توصف بأنها روايات أفكار، وتفاوتت من ناحية الثقة بالمثقف ومدى قدرته على التعبير عن وجهة نظره بنفسه.
وتعد الروائية لطفية الدليمي واحدة من الكتّاب الذين استهوتهم الشخصية المثقفة فكتبت روايات، أبطالها وبطلاتها مثقفون ومثقفات، جامعين بين الاهتمام بالقراءة وممارسة التفكير في الفن والحياة والتاريخ والمجتمع. وقد بدا ذلك الاستهواء متجليا في رواية(مشروع أومّا) التي وأن بدت في قسميها الأول والثاني رواية أحادية الصوت، وفيها السارد موضوعي ينتقل من شخصية إلى أخرى معبرا عن وجهة نظر ايديولوجية تتمثل في مشروع إنمائي تروم الشخصيات المثقفة من خلاله إحداث تغيير في بلدة الصافية، بيد أن الرواية ستغير بناءها في قسمها الثالث( الأجنحة لمن يحلق) وتحديدا الفصل الثالث منه، وستكون زهيرة أول شخصية يمنحها السارد الموضوعي الحرية لتعبر عن وجهة نظرها بصوتها في فصل( زهيرة: نشاز الأسرار) لكن في الفصل اللاحق يعود السارد الموضوعي ليمسك بالسرد من جديد ثم يمنح شخصية فلّاح الحرية ليمارس دور السارد الذاتي ثم يمنح هذا الدور للشخصيات على التوالي: زهيرة في فصل( تلك الظلال ) / ابراهيم / فيصل / زهيرة في فصل( زهيرة الخلاص المرتجى) الذي به تنتهي الرواية كرواية متعددة الأصوات، وقد غاب السارد الموضوعي، ومعه غابت وجهة النظر الأحادية وحلت محلهما العقول الاجتماعية التي يمثلها مهندسو المشروع الأربعة وهم: زهيرة وإبراهيم وفيصل وفلّاح.
وإذا كان هذا التباين في بناء الرواية قد جعلها تبدو أحادية الصوت أولا ثم متعددة الأصوات، فلأن الاختلاف في أداء الأدوار كان أن ارتهن بدرجة كبيرة بعقل كل شخصية ومدى وعيها الاجتماعي بمحيطها، هذا الوعي الذي كان في النصف الأول من الرواية غيره في نصفها الثاني. ولا شك في أن قصدية هذا التباين الفني والرؤيوي يدلل على وجود تحد يجعل من الرواية رواية أفكار.
ويمكن القول إن طبيعة الثيمة الموضوعية المتمثلة بمشروع أومّا، هي التي تفسر قصدية المؤلفة في جعل شخصياتها مثقفة وواعية تتعالى على همومها وأزماتها الشخصية هذا اولا وثانيا تدعيم الصورة الفكرية للرواية بجعل الشخصيات منهمكة في فكرة التخطيط لمشروع ستعطيه اسما وستعمل على تنفيذه بخطة عمل معدة سلفا ليكون المشروع حصيلة عقول( زهيرة وفيصل وابراهيم) ثم عادل وفلّاح.
وعلى الرغم من أن زهيرة امتداد لعائلة متسلطة بنت تقاليدها على الاستحواذ والغطرسة وإبراهيم وفيصل وفلّاح امتداد نمطي لجيلهم المتعلم والنظامي، فإن إرادة التفكير جمعتهم على التغيير، مغلبين الجانب العملي الجماعي على الجانب الاناني والشخصي ليكون الخير هو الثمرة التي انتجها مشروع أومّا.
وإذ آثر السارد الموضوعي في القسم الأول من الرواية أن يسترجع قصة المشروع الذي ينتمي لزمان مستقبلي قادم يتمثل بالعام 2028 عائدا الى العام 2019 فلأنه أراد أن يجعل من عقليّ زهيرة وابراهيم مَعينا للمشروع الذي ما كان له أن ينمو لولا عقلاهما.
والامر نفسه قام به هذا السارد في القسم الثاني الذي فيه أصبح إبراهيم وزهيرة اكسيري المشروع وعنوانه، علما أن قصدية السارد الموضوعي في إعطاء الشخصيات الحرية كانت تتجلى على طول الرواية وعرضها في مسألتين: الأولى في تكرار مفردة (تفكر / يفكر)، والثانية ميل السارد الموضوعي إلى توظيف الحوارات المباشرة في القسم الثاني ثم تصاعد بشكل جليّ في القسم الثالث الذي في فصله الثالث ترك هذا السارد مكانه تماما، سامحا لأربع شخصيات أن تتكلم بصوتها.
وقد وجهت واقعية تنفيذ الفكرة الشخصيات وجهة علمية بعيدة عن الوهم أو التعكز على الاساليب الطوباوية كتلك المتعلقة بالثورية والعقائدية والانقلابية والفوضوية، بل بحثت بدلا من ذلك عن حلول سلمية وعقلانية مضمونة النجاح. أما اختيار اسم المشروع فهو الاخر كان مستمدا من إدراك ثقافي لقيمة التاريخ في قيام المشاريع الوطنية النهضوية والتحررية وكيف أن للبعد التاريخي تأثيرا في انجاز مسائل الحياة المستقبلية، وزخما يجعل عملية تحققها ماثلة للعيان.
وإذا كانت الجدة فوزية في علاقتها بالناس من حولها عامة وعلاقتها بحفيدتيها زهور وزهيرة خاصة تمثل جيلا ماضيا بنى مجده على مبادئ نفعية ومصلحية فلم يَحسب للتاريخ حسابا في التعامل مع شؤون الحياة، فإن الجيل الجديد ممثلا بزهيرة وإبراهيم قد بنى وجوده أولا على استذكار التاريخ والتزود منه بدروس وعبر ثم الاعتماد على الفطرة الخيرة كبوصلة ترشد الى ما فيه نفع الجميع ثانيا ثم الافادة من الامكانيات الذاتية المتواضعة ثالثا.
وبالفطرة المعتمدة على العلم قام المشروع الذي كلما تعثرت مراحل انجازه كانت العزيمة تزداد للمضي فيه بتلقائية. وبحثا عن الحلول الممكنة التي تعود بالنفع على البشر من جانب وتحافظ على البيئة من جانب اخر، كانت أغلب الوسائل محلية وطبيعية.
ولا خلاف في أن الانظمة الوحشية الباحثة عن الهيمنة والاستحواذ والبذخ والاستهلاك تتخذ من المدن مركزا لها، غير أن الانظمة الاجتماعية الصغيرة والضعيفة تتخذ من البلدات الصغيرة مركزا لها باحثة فيه عن السلام والوئام وممارسة مشاريعها الصديقة مع البيئة والمتصالحة مع الاخر والمبنية على التكافؤ في الفرص والتعادل في الانتاج.
وبتفاعل عقول الشخصيات في الرواية كبر المشروع ليكون في ختام الرواية مستمرا بعزم الاصدقاء المثقفين، وهم يراهنون على التاريخ والثقافة والفكر في البناء والتغيير، مدركين فائدة التفكير الذي به يستمر المشروع في نجاحه، ولذلك وضعوا مناهج للتثقيف وقدموا محاضرات تدرب أهل البلدة على الاستثمار وتعلم الموسيقى ولغات جديدة، مفيدين مما لديهم من امكانيات ذاتية ومحلية.
وليس انتظار زهيرة لمولودها البكر في ختام الرواية سوى ترميز إلى الامل بالمستقبل الواعد الذي سيشرق مبددا الظلام ومنهيا عهودا من الاستسلام والخضوع حتى وإن كان هناك نعيق البوم وصوت اطلاقات النار ورائحة الحرب والرصاص. ويخيل إليّ أن تأثير احتجاجات تشرين وانتفاضاتها الشبابية الهادرة التي دامت لأكثر من عام كانت سببا في قدح شرارة العمل في فكر الروائية لطفية الدليمي فانجزت روايتها( مشروع أومّا) التي هي نموذج مثالي لرواية الأفكار التي تناغم فيها البعد الفني مع بعدها الرؤيوي .