TOP

جريدة المدى > عام > كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون.. تعريف الانسانية؟

كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون.. تعريف الانسانية؟

نشر في: 1 فبراير, 2022: 11:29 م

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

القسم الثالث

ثمّة فكرة (أراني متفقة معها كلّ الإتفاق) سائدة في أوساط الإنتلجنسيا العالمية مفادها أنّ مبحث الأنثروبولوجيا الثقافية (أو الإجتماعية ؛ إذ لافرق)

هو الأصل الذي يمكن منه إشتقاق كلّ المباحث السائدة في الإنسانيات (أدب، شعر، تأريخ، جغرافية، علم إجتماع، سياسة، إقتصاد،،،،، إلخ). الإشتقاق هنا بمعنى أنّ الأصول الاولى للمبحث المقصود في الإنسانيات يمكن معاينة بداية نشأتها بتوجيه البؤرة البحثية نحو موضوعة محدّدة في الأنثروبولوجيا الثقافية ؛ وعليه فإنّ الإحاطة ببدايات نشأة الأنثروبولوجيا الثقافية ستكون شرطاً لازماً لكلّ المشتغلين في حقل الإنسانيات، وفي الوقت ذاته لكلّ المعنيين بمباحث الأنثروبولولجيا والثقافة.

أقدّمُ في المادة التالية ترجمة لمعظم الفقرات الواردة في موضوع ثقافي يتّسمُ بالثراء والمتعة، كتبه لويس ميناند Louis Menand ونشره في مجلّة النيويوركر The New Yorker المعروفة بموضوعاتها الرصينة بتأريخ 26 أغسطس (آب) 2019. الموضوع منشور بعنوان:

كيف أعاد الأنثروبولوجيون الثقافيون تعريف الإنسانية؟

How Cultural Anthropologists Redefined Humanity ?

الآتي هو الرابط الألكتروني لمن يودُّ معاينة النص الأصلي للمادة المنشورة في النيويوركر:

https://www.newyorker.com/magazine/2019/08/26/how-cultural-anthropologists-redefined-humanity

المترجمة

 

عملت بندكت على دفع مارغريت ميد إلى دراسة الأنثروبولوجيا ومن ثمّ توظيفها في هذا الحقل. إلتحقت ميد بكلية برنارد عام 1920 لدراسة اللغة الإنكليزية كتخصص رئيسي، ثم عملت على دراسة علم النفس كفرع دراسي رئيسي بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية، وفي الوقت ذاته حضرت درساً أكاديمياً - بإشراف بواس، وبوجود بندكت كمساعدة تدريسية له - يتناول مقدّمة إلى الأنثروبولوجيا في سنتها الدراسية الأخيرة. أقنعت بندكت حينئذ ميد على الإلتحاق ببرنامج دراسات عليا في جامعة كولومبيا، وقد إختارت ميد العمل الحقلي في جزيرة ساموا لدراسة مرحلة البلوغ فيها بتشجيع حثيث من بواس الذي كتب مقدّمة للكتاب ونشرته ميد (كتاب « بلوغ سن الرشد في ساموا « المشار إليه أعلاه، المترجمة) والذي أطلق بداياتها المهنية في هذا الحقل البحثي.

إلتحقت زورا نيل هرستون Zora Neale Hurston بكلية برنارد عام 1925 عندما كانت في الرابعة والثلاثين (لاأحد يعرف العمر الحقيقي لهرستون ؛ إذ لطالما كذبت بشأن ذلك !)، وبعد تخرجها من الدراسة الأولية إلتحقت ببرنامج لدراسة الدكتوراه وقضت فيه سنتين متتاليتين قبل أن تترك الدراسة فيه ؛ لكنّها، وبتأثير مباشر من بواس، راحت بعد ذلك تجمع التفاصيل الخاصة بالفلكلور الافريقي – الامريكي السائد في منطقة وسط فلوريدا حيث نشأت هناك. نشرت هرستون نتائج عملها عام 1935 في كتاب بعنوان (بغالٌ ورجال Mules and Men ) مع مقدّمة له كتبها بواس ؛ لكنّ الأهمية الحقيقية لهذا العمل تكمن في أنّه وفّر لها المادة الضرورية للتمثيل المدهش لطريقة الكلام الإفريقية – الأمريكية في روايتها الوحيدة كانت عيونهم ترقبُ الرب Their Eyes Were Watching God. نُشِرت هذه الرواية عام 1937 ؛ لكنها إختفت شيئاً فشيئاً من المشهد الروائي الأمريكي والعالمي (إتّهم الروائي ريتشارد رايت Richard Wright هرستون باتباعها نمط الكتابة القروسطية)، ثمّ حدث أن « أعيد إكتشاف « هذه الرواية في سبعينيات القرن العشرين، وهي اليوم نصٌّ أساسي في المقررات الدراسية الخاصة بالأدب الإنكليزي.

أدرك الأنثروبولوجيون مطلع القرن العشرين، وبطريقة حاسمة، أنّ عالمنا كان موغلاً في فقدان تنوّعه الثقافي، وانتابهم قلق عظيم بفعل هذا الأمر. كتبت روث بندكت في هذا السياق: «

نشرت الحضارة الغربية - ولأسباب تأريخية جاءت بها الصدفة المحضة – خصائصها على كوكبنا بأسرع ممّا فعلت أية جماعة بشرية أخرى معروفة لنا، وقد ساهم هذا الإنتشار الثقافي الغربي في حماية حضارتنا الغربية وعزلها عن المؤثرات المحتملة للحضارات الأخرى. لم يحصل مثل هذا الأمر مع حضارات سابقة بقدر مانعلم حتى اليوم.....

إقترح في إحدى المناسباتكلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss، وهو أنثروبولوجي فرنسي معروف بأبحاثه الميدانية بين الجماعات السكانية المحلية التي تقطن الغرب الأوسط من البرازيل في ثلاثينيات القرن العشرين، أن يتمّ الإستعاضة عن مفردة “ أنثروبولوجي “ بمفردة أخرى هي “ إنتروبولوجي Entropology” ، وأراد بذلك علماً يسعى لإشاعة التجانس في الحياة البشرية عبر كوكب الأرض بأكمله. يمكن القول أنّ الأنثروبولوجيا الثقافية كانت طريقة الغرب في تخليد ذكرى ضحاياه.

الدافع الآخر لإعلاء شأن الأنثروبولوجيا الثقافية (وهو ماسعت إليه حثيثاً مؤلفات ميد وبندكت ورواية هرستون، وكان سبباً في شيوع هذه الأعمال وسط أوسع النطاقات الشعبية) تمثل في جعل هذا المبحث بمثابة مرآة كاشفة عن الإختلافات الثقافية: إنّ مايهمُّ باحث الأنثروبولوجيا هو الإختلاف الثقافي ؛ ولمّا كانت كلّ الإختلافات تعني تمايزاً بين شيء وآخر فكان لزاماً على الانثروبولوجيين الثقافيين الكشف عن الإختلاف بين الثقافات البدائية وثقافات أخرى « مرجعية أو قياسية « يمكن إعتمادها كوسيلة مقارنة (أو مرآة للكشف عن الإختلافات الثقافية بمعنى أدق)، وهذه الثقافات الأخرى هي ثقافات الأنثروبولوجيين الطلائعيين الذين ذُكِروا أعلاه.

يصحُّ هذا الأمر مع هرستون التي نشأت في فلوريدا ؛ لكنها إلتحقت بكلية في الشمال الأمريكي، وكانت عنصراً فاعلاً في حركة نهضة هارلم Harlem Ranaissance (حركة سعت لإحياء ثقافة الأمريكيين السود في حقول الموسيقى والفن والرقص والموضة والأدب والمسرح والسياسة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وكان حي هارلم في نيويورك مركزها الطلائعي، المترجمة). كانت هرستون باحثة كوسموبوليتانية (عالمية) كتبت روايتها (كانت عيونهم ترقبُ الرب) لأنها أرادت أن تقدّم للقرّاء الأمريكيين الشماليين طريقة في الحياة قلّما مرّت أطيافها بالعقلية الأمريكية الشمالية التي تصوّرت أنّ الأمريكيين الأفارقة يعيشون بسعادة في الجنوب الأمريكي رغم عدم وجود أية صلة ثقافية لهم بالبيض هناك.

الفكرة الكامنة وراء كلّ هذه الأعمال هي أننا لانستطيعُ رؤية طريقتنا في الحياة « من الداخل «، بالطريقة ذاتها تماماً التي لانستطيعُ فيها رؤية وجوهنا الشخصية بعيوننا ؛ وعليه فإنّ ثقافة (الآخر) توفّرُ لنا مرآة للكشف عن تفاصيل كنّا سنجهلنا لو مكثنا في حدود ثقافاتنا الخاصة. تكتب بندكت حول هذا في كتابها « أنماط الثقافة «:

الفهم الذي نحتاجه لصيروراتنا الثقافية الخاصة يمكن إنجازه بطريقة إقتصادية (بمعنى أسهل وأقلّ جهداً وكلفة، المترجمة) لو سلكنا تحويلة جانبية في دراساتنا السائدة.

عملت هذه الكتب الخاصة بالشعوب البدائية (ماقبل الحديثة) في واقع الأمر على تعزيز دراسة وفهم طبيعة الحياة في الغرب الحديث.

بدأت الأنثروبولوجيا الثقافية عقب وقت قصير من وفاة ميد تخسر صوتها المؤثر في النقاشات العامّة. يعتقد كنغ أنّ السبب وراء هذا الأمر هو تنامي النزعة المضادة للنسبية Relativism الثقافية، ويرى فضلاً عن ذلك أنّ النسبية الثقافية كانت الهدف الرئيسي الذي خصّه آلان بلوم Allan Bloom بهجومه الكاسح في كتابه الموسوم « إنغلاق العقل الأمريكي The Closing of the American Mind “ المنشور عام 1987، والذي ساهم في إطلاق شرارة الحروب الثقافية بعد عقد من ذلك التأريخ. خصّ بلوم كلاً من ميد وبندكت بهجوم عنيف، وأعلى في اطروحته الثقافية شأن الفكرة القائلة أنّ المبشّرين بنظرية النسبية الثقافية ساعدوا في جعل الطلّاب الجامعيين الأمريكيين كائنات عدمية تفتقد الوطنية الحقيقية، ومنذ ذلك الحين صارت النسبية الثقافية موضوعة محببة تطالها سهام البلاغة السياسية التي تعلي شأن النزعة الوطنية الأمريكية.

إنّهُ أمرٌ حقيقي وصحيح عندما يصرّحُ المرء أنّ بواس وبندكت تحدّثوا عن النسبية الثقافية ؛ بل أنّ بندكت أشارت في خاتمة كتابها « أنماط الثقافة « إلى « أنماط الحياة المتعايشة والمتكافئة في قيمتها والتي خلقتها الإنسانية من المواد الخام (الاولية) للوجود « ؛ لكنّ الحقيقة هي أنّ كلّ شيء آخر باستثناء هذه الملحوظة في كتاب بندكت إنما يخالفُ فكرة التأكيد على أنّ كلّ الثقافات متكافئة من حيث صوابية تطبيقها في كل الثقافات الأخرى. الموضوعة الجوهرية في النسبية الثقافية هي أن نمتحن كل الممارسات الثقافية السائدة لدى (الآخر) أو لدينا نحن، وان نختار منها مايبدو قادراً على خلق المجتمع الذي نريده. المرآة الأنثروبولوجية لها غاية أخلاقية في نهاية الأمر.

إنّ القول بالنسبية الثقافية لمعتقد ما أو ممارسة ما لايعني عدم إخضاعهما للمساءلة، والقوة الهائلة التي تحصّلت عليها الأنثروبولوجيا الثقافية التي جاء بها بواس وتلامذته إنما تكمن في الكشف عن حقيقة أنّ كلّ تحيزاتنا العِرقية هي تحيزات ثقافية في نهاية المطاف: الإعتقاد بأنّ بعض الأعراق أعلى شأناً من سواها هو إعتقادٌ يتمّ تعلّمه ولاأساس بيولوجياً له ؛ ولأجل هذا السبب فهو عُرضةٌ للنقد.

ثمّة طائفة من « البيولوجيين الجّدُد « الذين يختلفون نوعياً عن العلماء الذين خاض معهم بواس معارك ثقافية محتدمة في بدايات القرن العشرين. يتشارك هؤلاء البيولوجيون الجدد وبواس الرؤية القائلة أنّ « الإنسان واحد أينما كان « ؛ لكنهم يقصرون الرؤية المشتركة في إطار قناعتهم بوجود « طبيعة بشرية « واحدة مشتركة ؛ لكنّ نجاح أو فشل الأشكال المختلفة من التنظيم الإجتماعي هو أمرٌ يعتمد على مدى إخلاص تلك الجماعات البشرية لتلك الطبيعة البشرية المشتركة الواحدة.

صارت هذه المقاربة هي النمط السائد من التحليل الثقافي بين المعلّقين الإجتماعيين والسياسيين الذين راحوا يستشهدون أكثر فأكثر بنتاجات علماء علم النفس المعرفي، و البيولوجيا التطوّرية، بل وحتى علماء الغدد الصمّاء. تبدو الحياة - طبقاً لأحدث النسخ الإختزالية من هذه الخصيصة البيولوجية المؤثرة في تشكيل الثقافة – أقرب إلى كينونة (معلوماتية) مبرمجة (بمعنى مختزنة بصورة مشفّرة في المورّثات البشرية، المترجمة)، والثقافة ليست سوى الواجهة التفاعلية Interface لها.

لكن برغم كلّ التعاظم في إعلاء شأن النزعة البيولوجية المتزايدة في الثقافة فإنّ الموضوعات التي تناولها كلّ من بواس وميد في مداخلاتهم البحثية التي تناولت العِرق والجندر هي اليوم في بؤرة الحياة الثقافية الشعبية، ولم تزل تستدعي كلّ الخلط المفاهيمي والنقاشات الحادة بشأن ثنائية (الطبيعة / التنشئة Nature / Nurture)، مع ملاحظة أنّ نقاشات اليوم – بخلاف سابقاتها قبل عقود خلت – صارت تتناول موضوعة الهوية التي تبدو مفهوماً يتجاوز نطاق كلّ من البيولوجيا والثقافة. هل الهوية مسألة تنشأ في النطاق الداخلي للفرد أم كينونة يتمّ بناؤها إجتماعياً؟ هل هي قدرٌ مفروض على الفرد أم هي شيء يمكن إختياره وتمثّله طوعياً؟ وهل يتمّ تعريف هوياتنا المختلفة بواسطة الحالة الراهنة من العلاقات الإجتماعية ؛ أم أنها نحمل هذه الهويات معنا أينما حللنا في هذا العالم؟

تقترحُ هذه الأسئلة أنّ النقاشات الخاصة بمعضلة ثنائية ( الطبيعة / التنشئة) ظلّت دوماً محطّ خلط مفاهيمي أسيئ تأويله، وقد أشار الانثروبولوجي كليفورد غيرتز Clifford Geertz قبل سنوات إلى أنّ الطبيعة البشرية تسعى دوماً ليكون لها ثقافتها الخاصة ؛ في حين أنّ الأنواع الأحيائية الأخرى مبرمجة لكي « تعرف « كيف تتكيّفُ مع العالم. تطوّرت الذخيرة البيولوجية للبشر بما منحهم القدرة على إختيار الطريقة التي يستجيبون بها لبيئتهم، وبهذه الكيفية فإنّ البشر لايستطيعون العيش معتمدين على غرائزهم وحدها فحسب بل يظلون في مسيس الحاجة لـ دليل تعليمات Instruction Manual . الثقافة هي هذا الدليل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

62 حالة انتحار في ديالى خلال 2024 بسبب "الربا"

أزمة جفاف الأهوار.. الأمم المتحدة تؤكد دعمها و«الموارد» تتحدث عن برامج لاستدامة تدفق المياه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram