TOP

جريدة المدى > عام > في اربعينية الدكتور المعمار والفنان قحطان المدفعي

في اربعينية الدكتور المعمار والفنان قحطان المدفعي

نشر في: 6 فبراير, 2022: 11:16 م

أكرم العقيلي

أيا رب وجد في التراب عتيق
ويارب حسن في التراب رقيق
ويارب حزم في التراب ونجدة
ويارب رأي في التراب وثيق
ارى كل حي هالكا وابن هالك
وذا نسب في الهالكين عريق»

بتلك الابيات من شعر ابي نؤاس التي وجد فيه ضالته الشعرية واختارها ديباجة تتصدر غلاف كتابه الموسوم “ فكر ابي نؤاس “ وبحروفية فنية من خطه الذي تركه لنا من ارثه الادبي والفلسفي فارقنا علم من اعلام الفكروالعمارة المجدد الموسوعي والفنان والباحث والشاعر والاكاديمي الدكتور قحطان المدفعي.ليعود كما خاطب “ ربه” الى وجد تراب مدينته العتيق و مأواه الابدي. عاد الى ترابه من وجع غربة كان يأمل ان تنتهي في رسالة الى صديقه المهندس ابراهيم الشيخ نوري في حل لغز حسابي بابيات شاعره الغزل معبرا فيها عن احساسه بغربته وامله الذي بقي حالما فيه «..... بعد اتساع الغيمة السوداء التي كلكلت على قلوبنا وافكارنا خلال الاربعين سنة الماضية واذاقتنا المر والعلقم بجرع تختلف حسب ظروف كل منا وضل اختلاف اجزاء قلب ابي نؤاس الذي قسمه واعطى جنان الجزء الكبيرمنه وقسم الباقي على العشاق والى ساقي الخمر”»
عاد المدفعي بعد ان غيبه جور السلطة الشمولية الى تراب مكانه وزمان مدينة عشقها ليتوحد في زمكانه الذي طالما تعلق به فكرا وفلسفة ومنتجا عماري وفني وادبي.ليجد ان المكان ليس مكانه وان الزمن ليس زمنه وان الفجوة اتسعت وتتسع كل يوم الى حد الاغتراب بينه وبين حاضر بغداد الثقافي والعمراني والمجتمعي التي شهدت وتشهد تدهورا وتخريبا لم يتوقف. عاد لمدينة تاسى عليها بشعور بالالم عند زيارتها في العام 2011 “لانها تستحق عمران اجمل ولم يجد كلمة قاموس تعبر عن ماهية عمارة بغداد فالسفر داخلها مؤلم وموجع” «
برز الفقيد كعلم من اعلام العراق ومن رواد عمارة الحداثة منذ خمسينيات القرن الماضي ربط العمارة بالرسم وباللغة والشعر والموسيقى وتفرد بكثرة مواهبه وانشغالاته الفنية التي انعكست على منجزه التصميمي طيلة اربعة عقود من العمل الاستشاري المتميز باسلوبه الخاص ونزوعه نحو حالة التمايز في منجزه العماري.
لن يسهل الحديث عن منجزه العماري لاكثر من نصف قرن الذي اعتبره خلاصة تعلق خلاق بفكره الحضاري المتأصل في التاريخ والبحث والفلسفة وشغفه بالفن والشعر كصدى لطفولة متميزة واسرة متجانسة محبة للثقافة والادب والفن ونموذج للسلوك الانساني التقدمي الحضاري متطلعة لحياة جديدة جمعتهم معارف مميزة وفريدة في العمارة والانشاء والعلوم والادب والفن والموسيقى
وبحكم ممارسته للرسم وانضمامه الى جماعة الرواد h واحد الاعضاء المؤسسين لجمعية الفنانين التشكيلين فقدأعتبر ان العلاقة بين الرسم والعمارة والموسيقى والشعر والتداخل بين العماره والادب والفن اصبح بالنسبة له موضوعا بديهيا منذ الايام الاولى للدراسة الجامعية وهو ماشجعه على الاهتمام باعمال مدرسة الباوهاوس في المانيا.وما طرحته من معطيات فنية وجمالبة من خلال الحركة وايقاعها وتاثره بالفنانين امثال كاندنسكي وبول كلي انعكست في اعماله متأثرا بالمدرسة الانطباعية بالرسم
.واعتبر “ ان الفن بكافة فروعه هو وحدة شاملة متماسكة مصدرها ووسائل عملها واحدة” حتى وان تشعبت اساليب التعبير عنها في الرسم والموسيقى والشعر والتمثيل والنحت والسيراميك والخط والعمارة والتي يتعامل معها الفكر الانساني وجهازه البصري مع مصدر خارجي بتلذذ لانواع الفن ومنهجه المتشابه .واعتبار الادب عنصرا غير مادي بالنسبة للمعماري الذي يسهر على انجاز ومعرفة فضاء مهيكل معماريا كما في قصائده “فالمقارنة والتوازي والتوائم و التداخل كلها تحديدات تشي يتعدد الروابط مابين العمارة والادب ونوع علاقتهما ليتم النظر اليها على نمط العمارة باعتبارها شعرا” (بيير هيوبلت – مجلة منصة 2017) ان الانسان يتلقى العمارة المبنية مثل كلمات لغة ذلك ان الجوانب التفصيلية التي يتكوم منها المبنى ماهي الا الكلمات التي تؤلف خطابا فللعمارة نحوها الخاص يمكن اعتبار انظمتها وتراكيبها مثل وحدات لغوية نحوية فرعية في خدمة هذا النحو المعماري
ركن الفقيد الى شعر ابي نؤاس كأنه وجد فيه ضالته والاقرب الى فكره واعتبره “ احد الشعراء الذين تفردوا في التعبير عن الحقيقة بسلاسة الاسلوب وبساطته ليكون باطنه وظاهره متطابقان ومتحدان في استيعاب واستلهام الحوادث اليومية وتحويلها الى مواضيع تصلح ان تكون مواضيع شعرية « * كماواعجب ايما اعجاب بمفاهيم ابي نؤاس الرائدة في مضامير الفن والنظريات الجمالية والذي راى فيه تطابقا في بعض من سماته الشخصية واستخلاصه وحدة الفن في زمن ابي نؤاس
ويعتقد المدفعي بان ابي نؤاس استعمل البنيوية المقصودة في تكوين الاصوات في الكلمات وفي التركيب العام للقصيدة خلق موسيقى ترددية ايقاعية « تك. تك -.بم – تك.تك – بم “ والتي عبر عنها في مقاربته التصميمية لسقف مبنى جمعية الفنانين التشكيليين كما بينها لنا في احدى محاضراته في العام 1965 في السنة الثالثة عمارة كنوتة موسيقية “ تك.تك.تك.- بم – تك -.بم – تك”و التي غابت عن النقد و التحليل الذي تم نشره باعتبارها بيئية تتناسب مع المعنى الظاهر في الكلمة الواحدة وفي موكب الكلمات الذي يسميه ويطلق عليه ا”لبنيوية الشعرية وخاصة في الشعر الكونكريتي “ الذي ظهر في دواوين شعره الثلاثة في الستينات “ فلول، وزمزم زمان , ومقدمة الى الشعر البصري “ ومثله كما يعبر» استعمل الجواهري نفس الاسلوب في قصيدته (, أطبق دجا أطبق سحاب ).» ربط المدفعي العمارة باللغة حيث اعتبرها لغة ناطقة وتركيب زمكاني تكمن مقارباتها بالنص والمعرفة
لقد اتخذ الراحل في قصائده المنشورة في دواوينه الثلاثة يعكس كما عند ابي نؤاس اسلوبا مرتبطا بالبساطة والحياة والانسان روحا وزمانا ومكانا. غير انه تحرر من طريقة الكتابة التقليدية و اعتمد الشكل الهندسي للمربع والدائرة والمثلث في طريقة كتابته الخطوط وتوزيع مساحاته الكتابية بما يماثل تدوين الحواشي الظاهرة في المنمنمات التقليدية في كتب العلوم والتاريخ الاسلامي لتظهر للقاريئ لوحة لبناء شعري هندسي ومعماري. ويخلق النص في قصائده معماريته الخاصة في متاهة استطرادية حديثة بواسطة التبديل المتنوع في نثره لسطوح ومساحات تشكيلاته الهندسية لمختلف انواع الحروف والكلمات والزخرفة الطباعية والنصوص الموضوعة في اطار او معكوسة.
.كما اعتبر المدفعي” الخط العربي احد االخطوط العالمية المهمة الذي ادخل تعبيرا روحيا تعيد نفسها في الخط الذي يبدأ في فضاء السطوح ويتنهي في في بدايته تعبيرا عن ان الخلق عملية متجددة ولانهائية يتمازج مع اشكال زخرفة هندسية كهيئة داخلية للتكوينات نفسها” وماعبرعنه بمحاظراته في نظريات الفن والشعر والجمال وتطبيقاتها في العمارة متبنيا افكار الحداثة ومابعدها قبل ان تظهر من حيث انسياب الفضاء وحرية التركيبات المعمارية كما النصوص الادبية التي كان يحث طلابه على تبنيها كأسلوب ومنهج عمل في البحث عن الجديد وتجاوز المألوف
فالمدفعي عراقي بغدادي رسام جيد ومثقف رفيع الثقافة واكاديمي كفوء ودائم البحث والموغل في ادراك الحضارة الرافدينية باعتبارها حضارة واحدة امتدت لخمسة الاف عام مرت عليها ادوار مختلفة بمراحل وفترات تميزت بحركة فكرية وتجربة انسانية متراكمة انتجت عمارته وفنونه وادابه وعلومه و راى في ملوية سامراء اسمى العلامات المعمارية العراقية لجهة فلسفة انشاءها ودورانها اللامنتهي حول محور مايعتبره رمزا عماريا عراقيا عظيما والتي اجد بانها انعكست في بعض اعماله وسطوح تراكيبها الملتوية التي وجدها تتناغم وتتسق مع تجربته “ الزمكانية “
لم تكن العمارة للمدفعي وكما نقل عنه الكاتب الاستاذ الدكتور معتز عناد غزوان “الا تركيبا زمكانيا تعبر عن شيء ما منذ بداياتي العمارية عندما كان المجال الفني الشخصي ضيق نسبيا كان السطح الابيض الاملس الفارغ هو الفضاء لما اصبح بعدئذ سطحا رياضيا يستلهم الافكار ويعبر عنها ويقول في حديثه عن فن الرسم بان الرسم ككل فعالية فنية اخرى وككل ماأنجز ويتم عمله في القرن العشرين وبعده خاضع لعنصرين بكيانين اساسيين هما الزمان والمكان وهذا البعد الزمكاني هو البعد الذي يسيطر على اعمالي” فقد اتصفت معظم لوحاته بالتجريد من حيث كثافة الخطوط وتوزيع الالوان وتنوع الاشكال وكأنك تفسر حلما في عالم الخيال لايحده زمان ولا يعرف فيه مكان من خلال الرموز المستعملة في لوحاته التي ترتبط بمرجعياته الفكرية وخيالات ذاكرة بغدادية تغوص في اعماق التراث والاصالة .
اعتبرالصديق المعمار الاكاديمي والناقد المعماري الدكتور السلطاني بمقالته المنشورة في المدى بعض اعماله” محطات هامة في مسار عمارة الحداثة بالعراق والمنطقة كان دائم البحث عن نمط معماري مرجعيته عراقية تعتمد التجديد والجرأة “. حيث كان يدعو الى العودة الى العلاقة الروحية المتاصلة بالمكان والتاريخ والانسان والتي ارى بانه يتشارك فيها مع فكر الراحل الدكتور محمد مكية والى حد ما مع الجادرجي باعتبار مرجعية منتج التخطيط والعمارة هي الانسان المكان والزمان غير انه يتقاطع في المقاربة والاسلوب حيث لكل منهم مقارباته المختلفة في المنهج التخطيطي والعماري الحداثي المختلف فمنهج المدفعي وتفرده الشكلي كما وصفه الدكتور السلطاني” ممزوجا بالحس النحتي حيث يظهر الشيء ونقيضه , البساطة والتعقيد , الوضوح مع الابهام والحضور مع الغياب “ باحثا عن فرادة متميزة في اعماله التي تميل الى النحتية شديدة الاختلاف والزاخرة بالدهشة والتحولات التشكيلية الزمانية والمكانية التي تحتويها” كما نجدها في بدايات اعماله في سقوف الاقبية الاسطوانية المتدرجة والقائمة على جدران قاعدة جامع الست نفيسة البسيطة والتي تماثل الى حد ما معالجة مبنى جمعية الفنانين التشكيليين بالرغم من تباعد الفترة الزمنية بينهما (1954 - 1967) او كما تبدو منفصلة من الواقع العمراني السائد باستعماله السقوف الكونكريتية المائلة التي لاتتناسب مع بيئة المكان في مسابقة دور موظفي الدورة التي فاز بها في 1952 كلاسيكية ومزجه بين التراكيب الانشائية الحديدية المكشوفة كما في دار شاكر ابراهيم في المنصور ببغداد “ 1955 واستعمال المفردات والتشكيلات الفنية في اعماله بتصميم الجناح العراقي في معرض دمشق الدولي 1959 والعناصر المعمارية الملتفة احيانا كما في اعمدة سياج حدائق الاوبرا في بغدلد 1965 وبرج الساعة في الحلة لنفس الفترة ومعالجة سطوح واجهة عمارة الوكيل 1964وسقيف مبنى متحف التاريخ الطبيعي ببغداد ولم نجد في مقارباته التصميمية ما يوحي باهتمامه ببيئة ومحيط المكان العمراني وعلاقتها بعمارة المباني التي انتجها فالمكان بالنسبة للمدفعي هو موقع محدد وتاريخ ماضي في الوقت الذي يتعامل الدكتور مكية بنمط معماري مجدد غير انه مختلف باستلهامه من مفردات عمارة التراث العربي الاسلامي وفلسفته في اعتبار المكان هو قاعدة التخطيط العمراني فهو “ابن بيئته وابن مكانه ووهو منه واليه “ في منتجه المعماري مع الاهتمام بتسلسل الاحياز الخارجية وثم الى الداخلية ضمن حدث وانتقال متسق ومقياس متدرج حسيا وبصريا متوحدا في لغته وغنى بسيط بتفاصيل سطوحها بلغة تختلف عن لغة المدفعي في عمارته النحتية شديدة الاختلاف والزاخرة بالدهشة والتحولات التشكيلية الزمانية والمكانية التي تحتويها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. فلاح صباح الكبيسي

    مقالة بحثية جميلة...ووجدت نفسي متفقا بطروحاته التي لمستها عن قرب في الممارسة المهنية مع المرحوم المدفعي

يحدث الآن

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

62 حالة انتحار في ديالى خلال 2024 بسبب "الربا"

أزمة جفاف الأهوار.. الأمم المتحدة تؤكد دعمها و«الموارد» تتحدث عن برامج لاستدامة تدفق المياه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram