TOP

جريدة المدى > عام > حادثة إعدام الموتى فائز الزبيدي:1935 - 2019

حادثة إعدام الموتى فائز الزبيدي:1935 - 2019

نشر في: 7 فبراير, 2022: 11:11 م

صلاح نيازي

يقول الشاعر الألماني هاينه :”إذا أردت أن تكون شاعراً عظيماً، فكنْ إنساناً عظيماً”.

كذا عرفت فائز الزبيدي، حينما كان يربّي مواهبه الغضّة بحرص شديد، وصبر أكيد، مزدانين

بتواضع جذر،

وشجاعة برعم يتفتح. فلا انتىمى منابزاً بمسقط رأس، ولا تمذهب، أو تشيّع، أو تحزّبْ.

زاملته أربع سنوات جامعية. عرفته شاعراً، وما نما إلى علمي يوماً أنّه رسام محترف، إلا بعد

أن أقام معرضاً في كلية التربية.

من معروضاته المبتكرة، لوحة جمجمة.

كلّ ما رأيته من جماجم من قبل، كان معفراً ملقى على التراب بصورة عشوائية. إلاّ في لوحة المرحوم فائز. هي بالضبط أشبه ببورتريه.

تحدّق فيها فتبادلك النظرة بالنظرة بتجويفين مظلمين ثاقبين. تبادلك الآبتسامة بفم منزوع الشفتين، مع

ذلك، فضحك الاسنان مجلجل.

عنوان اللوحة، أكثر إلغازاً،» الضحك»، لكنْ ممّن؟ مع مَنْ؟ ضحك على مَنْ؟

كل ما رأيتُ من جماجم من قبل ميت، فاقد للوعي إلا تلك الجمجمة البورتريه حيّة، إذا صحّ التعبير. تتحاور معك بصمت مريب. صمت حادّ قاصم.

بعد حوالي خمسة وثلاثين عاماً من لوحة الضحك، كتب الزبيدي عام 1982 قصيدة عارية من أيّ عنوان، عارية من أية مساحيق بلاغية، أو عمليات جراحية تجميلية. نابتة مثل وصفة طبية.

في هذه القصيدة وكأنها امتداد للوحة الجمجمة، تكون الصدفة هي مهبّ الريح وما الإنسان إلاّ ريشة.

الزبيدي يتحدث فيها عن الصدفة كأنها القضاء والقدر، ولا محيص.

وحتى تكون للصدفة فاعلية آنيّة قصوى، اختار الزبيدي بمكنة فنان ماهر، من بين المخلوقات، جنوداّ في غمار حرب. أحياءً أمواتاً في وقت واحد:

«يكون

يعود الجنودُ من الحرب مصادفة

يعود الجنود من الحرب

بساقين من دونما ذاكرة

مصادفة

يعود الجنود من الحرب

بلا أذرعٍ

بلا أوجه،

ولا أوسمة

مصادفة «

لو فرضنا أن الجمجمة موقف فلسفي من الوجود، وإن “الصدفة”، موقف آخر، من عبثية الحياة، فإنّ مسرحية :»حادثة إعدام الموتى» موقف من التأريخ في أعمق مآسيه شعبية: أي مأساة الحسين.

بهذه المسرحية يبلغ الزبيدي قمة نبوغه، وما أخصب. وسيرى القارئ ان هذه المسرحية مشبعة بالثقافتين:الاغريقية والرومانية فنّيّاً، وبالتأريخ الإسلامي بوجه خاص. وقد يرى فيها النقاد عملاً هو الأوّل من نوعه، في تأريخ المسرح العربي، لأنها لا تصف الحدث، بقدر ما تستبطن نوازع الإنسان الداخلية وبالتالي تناقضاته، ومواجده.

مثل هذا الآستبطان جديد على الذهنية العربية. لكنْ قبل ذلك، نذكر ان فائز الزبيدي، شاعر، وكاتب قصة قصيرة، وروائي، ومترجم، عن الروسية وها هو يضيف إلى مواهبه مسرحية، هي يتيمة في نوعها، إلى مواهبه الجزلة الممرعة تلك. عنوان المسرحية مثير للفضول: «حادثة إعدام الموتى”.

صدّر الزبيدي المسرحية بمقدمة ضافية مدهشة، تكشف عن أن مؤلفها ذو خزين معرفي مثير للعجب،

في المسرح الاغريقي والروماني، وكذا شأنه، في وقائع التأريخ الإسلامي لا سيمّا تلك المتعلقة بتراجيدية الحسين، كما تكشف عن ملكة نقدية نادرة في الفنّ التشكيلي.

عالج الزبيدي في هذه المقدمة، وهي دراسة اجتماعية وفلسفية، ثيمتيْن في الأقل: هما الذاكرة الشعبية

وكيف تصنع “ من خامات تأريخية ولا تأريخية، مادةَ ملحمةٍ بطولية هي صورة لالتباس

البطولي بالديني، التأريخي باللا تأريخي، المحدود بالمطلق.»

بالإضافة، وجد الزبيدي بمهارة فائقة، تشابهات ومتوازيات بين الذاكرة الشعبية والفن التشكيلي العراقي،

وضرب مثلاً بلوحتينْ شهيرتين للرسام الرائد كاظم حيدر، هما: «مصرع أنسان»، و «ملحمة الحسين».

ما كتبه الزبيدي عن تينك اللوحتين، من حيث تحليل الألوان ودلالاتها يرقى إلى مستوى لا يبلغه

إلا نقاد أقلّاء في النقد التشكيلي.

يقول الزبيدي عن لوحة :”مصرع انسان”: ابتكر كاظم حيدر كل ما له علاقة بالجانب البصري من مكونات اللوحة، خاصة الأزياء وبذا ابتعد بموضوع اللوحة عن أن يبدو موضوعاً تأريخياً...» ثمّ

يحلل بعد ذلك اللون الأخضر وتدرجاته، ودلالاته بدقّة ناقد، ورقّة فنّان. يقول الزبيدي:” يصل(كاظم حيدر) بشفافية اللون الواحد، إلى حدّ الاقتراب من شفافية التصوير الشرقي الإسلامي، خاصة في

درجات الأخضر. وهذه السمة أعطت “لا تأريخية” صورة القمع في اللوحة شيئا من التأريخية عبر المجازات اللونية، والعروض المسرحية الدينية لموضوع المقتل”

قلنا إن فائز الزبيدي متشبّع بالمسرح الإغريقي والروماني، ولكنه أقرب الى الكاتب اللاتيني

سنيكا SENECA في ثلاثة وجوه في الأقل. فمن حيث التقنيات الفنية كلاهما يلجأ إلى الحوارات

الطويلة، ومن حيث رسم الشخصيات. كلاهما يستبطن النفس البشرية لتحليل أبعادها وتناقضاتها

ودوافعها. (قيل إن العصر الإليزابيثي وبالأخص شيكسبير، تأثر بسينكا في هذا المنحى النفساني).

التشابه الآخر ان مسرحية «حادثة اعدام الموتى « وإن كان المرحوم الزبيدي يطمح لأن تُمثّل على خشبة

المسرح، إلا أنها كما يبدو، تعطي ثماراً أينع وأنضج لو أعتبرت نصّاً مسرحيّاً كُتب للقراءة. ولا ضير في ذلك فكل مسرحيات سينكا، بلا استثناء، كُتبت للقراءة.

لم يكن من همّ هذه المقالة، دراسة هذه المسرحية، وإن كانت تطمح إلى ذلك في المستقبل. إنها مجرد تعريف بالمؤلف وبالمسرحية. مع ذلك لنتعرف ولو من باب الفضول، على إحدى تقنيات الزبيدي في التأليف المسرحي.

المعروف أن معظم المؤلفين المسرحيين، يلجأون في الفصل الأوّل إلى إثارة فضول القارئ أو المشاهد.

ففي ملحمة كلكامش راح الراوية في التسبيحة Paean يتوسع في «كليّة» وجود ذلك المجهول omnipresent ، وكلية معارفه omniscient وكذلك استهلّ ايسخيلوس مسرحيته اغاممنون، بالحارس الساهر الملول، وشيكسبير بالساحرات الثلاث في مسرحية مكبث. درج فائز الزبيدي على هذا النهج فبدأ مسرحيته بأغرب مقدمة لإثارة فضول القارئ. يعترف المرتاب من أوّل سطر:”في القضية كلّها أمر غامض. كل هذا الجيش لذلك الحطام الذي يسمونه الداعيةّ. كهل متيبس..يكاد يكون بلا عظام.. يلقي بنفسه من فوق حطام دار. ثمّ..! لا تكاد تجد منه شيئا.. هشاشة لا تصدّق، آمّحت ملامحه... كل هذا الجيش لمطاردة مخلوق مثل هذا» ويقول المستريب: “أمر غامض ، لا ريب! يروي جنودي مائة قصة عنه” وهكذا كلما دخلت شخصية أضافت غموضاً جديداً. كذا يتصاعد الفضول والتحرّق، لمعرفة كنه تلك الشخصية الغامضة.

يمكن القول: إن مسرحية “حادثة إعدام الموتى:” منعطف في تأريخ المسرح العراقي نهجاً وفنّاً، ومعالجة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

62 حالة انتحار في ديالى خلال 2024 بسبب "الربا"

أزمة جفاف الأهوار.. الأمم المتحدة تؤكد دعمها و«الموارد» تتحدث عن برامج لاستدامة تدفق المياه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram