رنيم العامري
في رواية نسب، للكاتبة أوكتافيا بتلر، نقرأ عن العبودية من خلال تجربة السفر عبر الزمن. بطلة الرواية (دانة)،
تعود بالزمن إلى فترة ذروة العبودية، إلى الجنوب الأمريكي قبل الحرب الأهلية، وتحديداً إلى مزرعة في ماريلاند بداية القرن التاسع عشر. دانة سيدة أمريكية-أفريقية تعيش في سبعينيات القرن العشرين، تسكن في لوس أنجلوس، مع زوجها كيفن أبيض البشرة. وبعد فترة من التنقلات المفاجئة والإجبارية عبر الزمن، نكتشف أن هنالك سبباً معيناً لعودة دانة إلى هذه المزرعة المعينة.
في مقال بعنوان «محاربة فقدان الذاكرة التاريخية»، تقترح فيه كاتبته أن هناك هدفاً تعليمياً خلف كتابة (نسب). وتقول: «إن اتهام الأمريكيين الأفارقة بالسلبية يأتي نتيجة قلة وزيف المعرفة التاريخية». وتقترح كاتبة المقالة أنه لفهم العبودية يجب عليك «الذهاب إلى مزرعة جنوبية، وتُسمي نفسك نخّاس زنوج. عندها لن تكون هناك خفايا، وسوف ترى وتسمع أموراً ستبدو لك من المستحيل أن يقترفها بنو البشر». وهنا، تختار أوكتافيا بتلر إرسال دانة بطلة روايتها (نسب) إلى الجنوب الأمريكي قبل الحرب الأهلية. وعن هذا تقول بتلر: «كنتُ أحاول جعل الناس يشعرون بالعبودية. كنت أحاول تجاوز الحجارة العاطفية والنفسية التي ألقتها العبودية على الناس».
في مقابلة معها، تُصرح بتلر أنها كتبت (نسب) كاستجابة للإحساس الحاضِر بالعار من الأجيال الأكبر سناً من الأمريكيين الأفارقة، لأنهم كانوا يظهرون الذلّ تجاه أسيادهم البيض، قائلة في مقابلتها: «إن رواية (نسب) كانت نوعاً ما ردة فعل على بعض الأشياء التي حدثت في الستينيات عندما كان الناس يشعرون بالعار أو الغضب الشديد من آبائهم لأنهم لم يقوموا بتحسين الوضع في وقت أسرع، لذا أردت أن آخذ شخصاً من وقتنا الحاضر وأعيده إلى فترة العبودية». لكن ملاحظة أدلى بها زميل لها في الدراسة، هي ما دفعتها على وجه الخصوص لكتابة نسب، فتقول: «إن موقفه من العبودية أشبه بالموقف الذي اعتدت أن أتخذه عندما كنت بعمر الثالثة عشرة، فقد رأى بأن الجيل الأكبر سناً كان يجب عليه أن يتمرد، وعلّق ذات مرة قائلاً: أتمنى لو كان بوسعي قتل كل أولئك الذين كانوا لفترة طويلة يعيقوننا عن التقدّم، ولكنّي لا أستطيع لأنني حينها يجب أن أبدأ بوالديّ».
إن هذا الشعور بالعار من الآباء المتّهمين بالخضوع والذل للسيّد الأبيض، ما زال مستمراً حتى يومنا هذا، مما يعني أن قلّة المعرفة بالمصادر التاريخية الحقيقة، لا تزال قائمة. في مقابلة عام 2018 مع مغني الراب الأمريكي-الأفريقي (كانييه ويست) صرّح فيها قائلاً: «عندما تسمع أن العبودية استمرّت لـ 400 عاماً.. 400 عاماً؟ فأن هذا يبدو كما لو أنّها كانت خياراً».
ومع أن (دينة) امرأة حرّة من القرن العشرين، متعلمة وذكية، فأن العِرق يصبح في الزمن الذي تعود إليه هو هويتها الوحيدة. فبعد أن تُجلد، تشعر بالضعف والعجز. وأخيراً تدرك لأي مدى يستحيل الوقوف بوجه مالك عبيد، فتقول: «هل رأيتم كيف يصبح الناس عبيداً بسهولة»، وقد فهمتْ أخيراً كيف شعر العبيد بالعجز والضعف بعد أن صارت في مكانهم، فتقول: «وكأن كل ما يحدث هنا طبيعي وسلس وعادي. الأطفال، نحن. لم أدرك قطّ مدى سهولة تمرين البشر على تعوّد العبودية» .
وأيضاً، من خلال تتبّع شخصية (روفوس وايلن)، يمكننا أن نتتبع كيف يمكن لأي شخص تبني السلوكيات العنصرية والتمييزية من المجتمع حوله. نحن نرى كيف تنمو الأفكار العنصرية والتمييزية الجندرية داخل (روفوس) خلال فترات حياته المختلفة. فعندما كان (روفوس) طفلاً كان يشير إلى (أليس) الفتاة السوداء الحرّة على أنها صديقته، وعندما كبُر نلاحظ أنه تبنّى الخطاب العنصري الذكوري الذي يراه بين الرجال في مجتمعه، فقد صار يرى أليس على أنها ملكيته وهو أحقّ بها، بالرغم من أنها لم تكن من عبيده.
أوكتافيا بتلر نفسها كانت ترفض تصنيفات الكتابة فتقول في إحدى مقابلاتها عندما سُئلت عن رأيها بتصنيف رواياتها تحت فئة أدب الخيال العلمي: «حقاً، لا يهم. القصة الجيدة هي قصة جيدة. إذا وصل إليك ما أكتبه، فسيصل إليك بغض النظر عن العنوان الذي تم تعليقه عليه. العناوين عامة، إنها هناك لكي تعرف أين تبحث في المكتبة، أو كعناوين تسويقية بحيث تعرف مكان وضع الكتب في المكتبة أو حتى يعرف باعة الكتب كيفية بيعها. ليس للعناوين أية علاقة بالكتابة».
ربما تكون رواية (نسب) هي أفضل خيار للبدء بقراءة أوكتافيا بتلر. التي تقول في إحدى مقابلاتها إنها «تكتب عن نفسها». وعندما سُئلت بتلر عن السبب وراء كون (نسب) أحد أكثر أعمالها شهرة أجابت «لأن نسب مُتاحة لعدد من الجماهير، للدراسات التي تخصّ السود -أوه أعتقد أنني يجب أن أعدّل مفرداتي هنا- الدراسات التي تخصّ الأمريكيين من أصول أفريقية، والدراسات التي تخص المرأة والخيال العلمي. بل أنها تصل أحياناً إلى الأشخاص الذين قد لا يقرأون هذا النوع من الكتب إلا بهذه الطريقة، والذين قد لا يقرأون التاريخ أو الرواية التاريخية عن تلك الفترة ما لم تكن تشبه رواية (ذهب مع الريح). مع (نسب) اخترت الزمن الذي أعيشُ فيه. اعتقدتُ أنه من المثير للاهتمام أن أبدأ في الذكرى المئوية الثانية، أي في العام الذي تبلغ فيه البلاد 200 عاماً، ولا تزال الدولة تتعامل مع المشاكل العرقية، وهنا يتعيّن على بطلتي أن تتعامل مع العبودية فجأة. ولو أنني قمتُ بكتابة الرواية الآن، فمن المحتمل أن الأمر لن يكون مختلفاً جداً. فما كنتُ أحاول فعله هو جعل الوقت حقيقياً، أردتُ أن آخذهم [القراء] وأعيدهم إليه. كانت الفكرة دائماً هي جعل ذلك الوقت حقيقي من الناحية العاطفية للناس. ولا يزال هذا هو ما يدور حوله الكتاب. الشيء الجميل أنه صار يقرأ في المدارس. وبين الحين والآخر أسمع عن صغارٍ يقرؤونه وأتساءل كيف يرتبطون به. وفي كثير من الأحيان، بالأخص بين الشباب، يشعرون «أوه، لو كنتُ أنا مكانهم.. لقمتُ بـ..» ولديهم حلول بسيطة لن تنجح إطلاقاً وربما قد تؤدي إلى مقتلهم. لأنهم لا يفهمون حقاً مدى خطورة الأمر عندما يقف المجتمع بأكمله حرفياً ضدك ويصطف لإبقائك في مكانك. ولو أنك خرجت من الصف، وأسأت السلوك، فسيقتلونك لأنهم يخافونك. كان (نسب) مستنزفاً ومثيراً للكآبة، لا سيما عملية البحث لكتابته. .. لقد راودتني فكرة كتابة الرواية في الكلية. ولكن الكثير من أسباب كتابتي للرواية أتت عندما كنت في المدرسة التمهيدية عندما كانت والدتي تأخذني للعمل معها. لقد تسنى لي رؤيتها وهي تتجاهل الإهانات وتدخل من الأبواب الخلفية للمنازل، وبالرغم من أنني كنت طفلة، إلا أنني أدركت كم أن هذا الأمر مهين. كنت أعرف بوجود خطبٍ ما، شيء خاطئ، كريه، سيّئ. أتذكر أنني أخبرتها بعد ذلك بقليل، عندما صرت في عمر السابعة أو الثامنة، قلت لها: «لن أقوم بالعمل الذي تقومين به، إن ما تقومين به فظيع». فنظرت لي بحزن، ولم تُجب. أعتقد أنها تلك النظرة وذكرى الإهانات التي تحملتها. لقد تذكرت كل ذلك، وأردت أن أوصل فكرة أن الناس الذين مروا بكل ذلك لم يكونوا جبناء، ولم يكونوا أشخاصاً مثيرين للشفقة بحيث لم يستطيعوا حماية أنفسهم، بل كانوا أبطالاً لأنهم كانوا يستخدمون كل ما لديهم لمساعدة أطفالهم على التقدّم في الحياة. لقد عرفَت أمي معنى الجوع، كانت شابة خلال فترة الكساد، وأُخرِجت من المدرسة في العاشرة من عمرها. عاشت أوقات لم يكن فيها عندهم طعام، وأوقات ناضلوا فيها من أجل أن يكون هناك سقف فوق رؤوسهم. أما أنا فلم أقلق بشأن أي من ذلك. لم نشعر بالجوع أبداً، ولم نتشرد أبداً. وتنسى لي الذهاب إلى الكلية بينما هي لم تتمكن من إنهاء دراستها الابتدائية. كل ذلك لأنها كانت على استعداد لتحمل كل هذا الهراء لمساعدتي. لذا أردت أن أنقل كل ذلك من دون أن يبدو أن هؤلاء الناس ضعفاء لأنهم لم يقاتلوا. لقد قاتلوا، لكنّه لم يكن قتالاً بقبضات الأيادي، وهو أمر أحياناً يبدو أسهل ولكنّه بلا جدوى. غالباً ما يكون الحل السريع والقذر هو الحل الأكثر إثارة للإعجاب، إلى أن تضطر إلى التعايش مع عواقبه».