لطفية الدليمي
شاعت في العقود الأولى من القرن العشرين حتى ستينياته جهودٌ عالمية موجّهة تسعى إلى إشاعة نمط ممّا يمكن تسميته (فلسفة علمية)،
وقد تجذر هذا المسعى، وتعمقت أدواته لدى بعض أعضاء «حلقة فيينا » (Vienna Circle) الذين أثمرت جهودهم عن نشأة الفلسفة الوضعية المنطقية ؛ ذلك الاتجاه الفلسفي الذي أراد أن يكون فلسفة عصر العلم. سعت الوضعية المنطقية إلى إحداث ثورة على المستوى الفلسفي طالت الاشتغالات الفلسفية التقليدية، وأثمرت كشوفات فلسفية جديدة ، وقد ساهم فلاسفة مثل برتراند راسل Bertrand Russell ولودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein في قيادة رَكْب هذه الفلسفة.
عندما أقرأ عن نشأة الفلسفة العلمية ترتسم أمامي أسئلة جوهرية: ماالذي ننشده من الفلسفة؟ وهل المطلوب أن تصبح الفلسفة علمية أو تابعاً للعلم يكتفي بتأويلات مناسبة لبعض معضلاته (مثل معضلة الأسس المفاهيمية لميكانيك الكم)؟ وهل الفلسفة العلمية هي الشكل الوحيد للفلسفة الذي يمتلك مشروعية البقاء والنمو والسيادة ؟
بشّر كثير من العلماء بموت الفلسفة (في مقدمتهم الفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ)، وماأظنّهم قصدوا بهذا الموت إزاحة الفاعلية الفلسفية جانباً بقدر ماقصدوا ضرورة ابتعاد الفلسفة عن مقاربة الموضوعات الوجودية الأساسية الثلاثة الخاصة بأصل كل من الكون والحياة والوعي لأنها صارت موضوعات بحثية محصورة في نطاقات الممارسة العلمية الخالصة.
بقدر مايختصُّ الأمر بمنطقتنا العربية ساهم فلاسفة مرموقون من العيار الثقيل (في مقدمتهم الراحل زكي نجيب محمود) بالتبشير بسيادة عصر الفلسفة الوضعية المنطقية وموت كل الفلسفات الأخرى بصفتها غير علمية. أظنُّ أنّ شيوع الجهل والخرافة والأصوليات الدينية هي الأسباب التي دعت هذا الفيلسوف إلى إعلاء شأن هذه الفلسفة وتسخيف ماسواها إلى حد صارت معه الفلسفة الوضعية المنطقية تمثل أصولية مقابلة للأصوليات السائدة.
* * *
ماذا لو أخبَرَنا صديقٌ ما أنّ معظم معاناتنا في هذه الحياة ليست معاناة حقيقية ؛ أي بمعنى أنها تنبعُ ببساطة من عقولنا وطريقة رؤيتنا للأشياء ؟ لاأقصدُ هنا بالتأكيد المعاناة التي تسببها عوامل مادية مشخّصة مثل الجوع أو الألم الفظيع الناجم عن أمراض محدّدة ؛ بل المقصود عوامل يمكنُها أن تجعل حياتنا تصطبغُ بنزعة سلبية قاتمة، مثل: القلق، الإحباط المفضي إلى اليأس والقنوط والخذلان، الخوف المَرَضي، خيبة الأمل الشاملة، الغضب،،،،،.
في المقابل لنتصوّر الكيفية التي ستكون عليها حياتنا لو أخبَرَنا فردٌ (أو جماعةٌ ما) بأنّ في مستطاعنا تجاوز كلّ تلك العوامل المعيقة لنا في الحياة ؟ هذا هو بالضبط مافعله الرواقيون Stoics القدماء، وصار من الواضح أنّهم يتوفّرون على القدرة الكاملة لجعله طريقة حياة رشيدة حتى بالنسبة لنا الذين نحيا عصر الحداثة الفلسفية والتقنيات الفائقة في القرن الحادي والعشرين.
معاناتنا النفسية ليست سوى طريقة نظر مخطوءة لعيش الحياة: هذا مايراه أقطاب الفلسفة الرواقية الثلاثة العِظام (سينيكا، إيبكتيتوس، ماركوس أوريليوس) الذين عاشوا في القرنين الاول والثاني بعد الميلاد. يُعرَفُ عن سينيكا أنه كان معلّم الإمبراطور نيرون، ويعرَفُ عن إيبكتيتوس أنه كان عبداً إستطاع إنتزاع حريته ومضى بعدها لتأسيس مدرسة فلسفية له تبشّرُ بالمبادئ الرواقية ؛ أمّا ماركوس أوريليوس فكان إمبراطوراً رومانياً. ليس ثمّة من يتخيّلُ مايبلغه مدى الإختلافات بين هؤلاء الثلاثة ؛ لكنّ ماوحّدهم هو نزوعهم الرواقي الذي أعلوا من شأنه واعتبروه طريقة مجرّبة في عيش حياة طيبة.
لم يترك لنا هؤلاء الرواقيون الثلاثة – وعلى خلاف أكابر فلاسفة الإغريق – سوى القليل من الآثار الأدبية الدالّة عليهم: ترك لنا سينيكا بعضاً من المقالات تناولت شتى الموضوعات الفلسفية، ومجموعة من الرسائل التي كتبها لصديقه لوسيلوس، وعدداً من التراجيديات، أما إيبكتيتوس فترك لنا عدداً من المحادثات كتبها تلميذه أريان وهي في مجملها تسجيل لوقائع المحاضرات التي كان يلقيها على تلامذته في مدرسته الرواقية، وقد إختزلها إيبكتيتوس لاحقاً على شاكلة موضوعات رئيسية محدّدة في كتاب (المختصر). الحالة مع الإمبراطور ماركوس أوريليوس كانت مختلفة بعض الشيء ؛ فقد عمد إلى تدوين (تأملاته) الشخصية بشأن الأفكار المركزية في الرواقية وكيفية توظيفها في سياق عملي يتماشى مع وقائع الحياة اليومية.
ألهمت هذه الأعمال الفلسفية لكبار الرواقيين الرومان كلّ من تعامل معها ابتداءاً من تلامذة المدارس الفلسفية القديمة وحتى قرّاء النصوص المطبوعة في عهد مابعد اختراع الطباعة. من المثير في هذا الميدان ملاحظة الزيادة الهائلة في الطلب على قراءة هذه الأعمال وبخاصة في عهد مابعد الجائحة الكورونية الراهنة ؛ الأمر الذي يكشفُ لنا أنّ الفلسفة الرواقية يمكنُ أن توفّر لنا عزاءات في أوقات الأزمات العصيبة لايمكن أن توفرها فلسفاتٌ أخرى.
ليست المبادئ الفلسفية الرواقية مقتصرة على الأدبيات القديمة أعلاه ؛ بل ثمّة توجّه عالمي لنشر هذه المبادئ وتعزيزها على المستويين الأكاديمي والعام، وهذا ماتكشفه الزيادة الكبيرة في الكتب المنشورة التي تتناول هذه المبادئ في سياقات مختلفة. سأتناولُ أدناه إثنين فحسب من هذه الكتب المنشورة حديثاً.
الكتاب الأوّل هو (دروسٌ في الرواقية Lessons in Stoicism) لمؤلفه الفيلسوف البريطاني جون سيلرز John Sellars، المنشور عام 2019 عن دار نشر Allen Lane، وكان سيلرز موفقاً للغاية عندما إختار للكتاب العنوان الثانوي التالي (ماالذي يعلّمنا إياه فلاسفةٌ قدماءٌ حول طريقة عيش حياتنا). يعمل سيلرز محاضراً للفلسفة في جامعة لندن، كما أنه عضوٌ في كلية ولفسون في جامعة أكسفورد. يعدُّ سيلرز أحد الأكاديميين المختصين بالرواقية الحديثة، وقد بلغ به الإهتمام العملي بالرواقية حدّ مساهمته مع أعضاء آخرين في تأسيس الأسبوع الرواقي، وهو حَدَثٌ عالمي سنوي تدعى فيه مجموعة من عامّة الناس لممارسة حياة رواقية كاملة على مدى أسبوع لملاحظة حجم التغيير الذي يمكن أن يطال حياتهم ويحسّنها نحو الأفضل.
بدأ سيلرز كتابه بمقدّمة تمهيدية مقتضبة عن الرواقية، ثمّ تناول الموضوعات الرواقية الرئيسية في سبعة فصول أعقبتها خاتمة أجملت جوهر الممارسة الرواقية. الفصل الأوّل عنوانه (الفيلسوف طبيباً) وتلك إشارة واضحة إلى أنّ مهمّة الفيلسوف هي تطبيب الأرواح الموجوعة واستعادة ثقتها في الحياة قبل الانغماس في فهم الحياة والوجود ؛ إذ كيف لروح معطوبة وخائفة أن تجد مايكفي من الشغف في التفكّر الفلسفي ؟ ثمّ يتناول المؤلف في الفصل الثاني موضوعة (ماالذي ينبغي السيطرة عليه ؟) في إشارة واضحة إلى وجود أشياء في الحياة يمكننا أن نجعلها طوع سيطرتنا (مثل القلق، الخوف،،،) وأشياء أخرى خارج نطاق سيطرتنا (الشيخوخة، المرض، الموت،،،). المقاربة هنا يسيرة واضحة: تعلّم السيطرة على مايمكن السيطرة عليه، واترك أمر مالايمكن السيطرة عليه. ثم ينتقل المؤلف في الفصل الثالث لتناول (معضلة المشاعر) التي غالباً ماتقودنا إلى ردات فعل سلبية، ثم ينتقل في الفصل الرابع لكيفية (التعامل مع المحن اليومية والوجودية)، وبعدها يتناول المؤلف (مكانتنا في الطبيعة)، ثمّ يفرِدُ فصلاً كاملاً عن المعضلة الثنائية الأزلية (الحياة والموت)، وبعدها يتناول موضوعة (كيفية العيش مع الآخرين). يقدّم المؤلف في نهاية الكتاب قائمة بقراءات إضافية، وأخرى بهوامش إثرائية للموضوعات التي تناولها في الكتاب. يمتازُ الكتابُ بصغر حجمه (أقلّ من 100 صفحة) ؛ وعليه من المتوقع أن يكون ذا فائدة عظمى لمن يبتغي قراءة سريعة ورصينة للفلسفة الرواقية.
الكتاب الثاني عنوانه (الدليل الرواقي لحياة سعيدة The Stoic Guide to a Happy Life) مع عنوان ثانوي (53 درساً مختصراً للعيش)، نشرته دار نشر Basic عام 2020، ومؤلفه الفيلسوف ماسيمو بغليوتشي Massimo Pigliucci. يعمل بيغلوتشي أستاذاً للفلسفة في كلية ستي بجامعة نيويورك، وهو مؤلف لثلاثة عشر كتاباً فلسفياً فضلاً عن كتاباته المتواصلة في صحف نيويورك تايمز، وول ستريت، وكذلك مجلات فلسفية رصينة (مثل Philosophy Now، Philosophers› Magazine).
تقدّم بعض الكتب دليلاً عملياً (أو مختبرياً بلغة المصنّفات الأكاديمية الجامعية)، وفي السياق ذاته يمكن إعتبارُ كتاب بيغليوتشي دليلاً عملياً في كيفية عيش الحياة، ومن المناسب اعتبارهُ كتاباً مكمّلاً للكتاب السابق مع استثناء واحد يتمثّلُ في تركيزه على إيبكتيتوس فقط بين الرواقيين الثلاثة الكبار، وهذا مايكتشفه القارئ من عنوان الفصل الأوّل الذي إختار له المؤلف عبارة (المراهنة على الفيلسوف – العبد).
أرى في نهاية هذه المراجعة السريعة ضرورة الإشارة إلى الملاحظات التالية:
أولاً: الحياة الطيبة (أو العيش الطيّب) تتقدّم على محاولة الفهم والإبحار العميق في لجّة التفكّر الفلسفي. لن تغنينا القراءات العميقة لتأريخ المدارس الفلسفية فيما لو تعكّر صفو حياتنا بسبب الخوف أو القلق أو الجزع من الحياة، ويمكنُ لنا ملاحظة هذا التوجّه المتنامي في توجيه الفلسفة وجهاتٍ عملية ترتقي بنوعية الحياة بدلاً من اعتبارها اشتغالاً منعزلاً في ممالك فكرية مهجورة.
ثانياً: يمكن ملاحظة أوجه شبه كثيرة بين المبادئ الفلسفية الرواقية ومقاربة (العلاج السلوكي الإدراكي CBT) السائدة في علم النفس الحديث ؛ الأمر الذي يشير إلى إمكانية تعشيق مقاربات فلسفية قديمة مع توجهات معرفية حديثة على المستويين النظري والتطبيقي.
ثالثاً: من الخطل إعتبارُ المبادئ الفلسفية الرواقية واحدة من ثيمات (أو موضات) التنمية البشرية التي شاعت في وقتنا وصار لها دعاةٌ كذبة كثيرون. تختلف الرواقية الحديثة جوهرياً عن أدبيات التنمية البشرية السائدة، وليس لها من مبشّرين سوى آبائها المؤسسين الثلاثة فضلاً عن بعض الفلاسفة المعاصرين الذين يمكننا تحسّس مدى رصانة أفكارهم عن طريق القراءة المباشرة بدلاً من وُسَطاء يعتمدون وسائل الدعاية الإعلامية المبهرجة، والأمور بخواتيمها في نهاية المطاف وليست محض انسياقٍ وراء إعلاناتٍ تقودنا إلى مزيد من الخواء في نهاية المطاف.
* * *
المسعى الجوهري للفلسفة في عصرنا الحاضر يكمن في تقديم الفلسفة دروساً وأمثولات معيارية للعيش الطيب والحياة الخيرة، فضلاً عن تقديمها عزاءات للإنسان تمكنه من مواصلة حياته المتخمة بألوان التراجيديا الوجودية المؤلمة، وربما يمكن تلمس مصداقية هذه القناعة في حقيقة الزيادة المذهلة لقراء الكلاسيكيات الفلسفية الإغريقية (خاصة المحاورات الأفلاطونية والملاحم الإغريقية المعروفة)، إلى جانب الكلاسيكيات الفلسفية التي سادت عصر النهضة الأوروبية، والتي تشهد قراءات متنامية لم تخفت جذوتها على مر السنوات، كما يمكن الاستفادة من بعض مصنفات تراثنا الفلسفي العربي الذي يزخر بإشراقات فلسفية لامعة لا يمكن أن يتجاوزها أي عقل فلسفي شغوف.
حياتنا أكبر من أن تكون رهينة لمنتجات العلم والتقنية، ولابد من إضفاء نكهة فلسفية على وجودنا الإنساني منذ سنوات النشأة الباكرة، وكلما نجحنا في تثبيت أركان التساؤل الفلسفي المقترن بدهشة اكتشاف الأسرار الخبيئة في وجودنا الإنساني كان هذا المسعى استثماراً حقيقياً للرأسمال البشري سنشهد نتائجه في سنوات ( أو ربما في عقود ) مقبلة.