حيدر المحسن
جرى هذا المشهد في غرفة التّدريس الخاصّة بالأستاذ يوسف النّعمان، أشهر جرّاح قلب في العراق الذي كان مزدهرا، في المشفى الذي كان يُدعى مدينة الطبّ. كان النعمان جالسا على كرسيّه في دَعة، متأمّلا صورةً قلب المريض ورئتيه وبقيّة أحشاء جوفه الصّدريّ مأخوذة بواسطة الأشعّة السّينيّة،
ومعروضة على شاشة متوسّطة الحجم، يشرح للطلّاب عن عمر المريض، وشكواه، ويعيّن بالتّفصيل خارطة أعراض مرضه، وعلاماته. حوالي ساعة من الحديث عن شخص لم يره الطّبيب، يوسف النّعمان، لكنّه يعرف عنه كلّ شيء، وكان يجيئني صوته حادّا، كأنّما يحزّ جلدي:
- تضخّمُ القلب إلى هذه الدّرجة يكشف لنا أنّ الشّابّ مدمن على كلّ أنواع المخدّرات المعروفة تقريبا، ابتداءً من التّبغ، وحتّى الهيروين.
قال الأستاذ، وكنّا، نحن الطّلّاب، المراقبين للمشهد نشعر أنّ الهواء صار في المكان أكثر، والشّمس التي تنير المكان، وقد رأد الضّحى، صارت أكثر سطوعا. إنها معجزة تتحقّق، وأمام أنظارنا، وهي التي أسميتها في ذلك الوقت “رؤية من قرب”. كنت أراقب ملامح وجه أستاذي، وكان في مظهره تجسيد حقيقيّ للطّاقة التي يمتلكها الرّجل العالم، الرّياضي، المحارب، والتي يبدو أنها تنبع عبر المسام من جسده من احتياطيّ غير معروف، كأنّ ما يجري في عروقه فولاذ سائل وليس دما.
عندما زرت المريض بعد ذلك لم تقدّم لي الصّورة الواقعيّة معلوماتٍ أكثر مما أخبرنا به يوسف النّعمان، برؤيته القريبة. كان المريض يرقد في الرّدهة الجراحية الخاصّة بأمراض القلب، شابّ لم يتجاوز الثّلاثينَ، سمرته محبّبة وشعره طويل وأشعثُ، وكان مقيّدا من معصميه إلى السّرير كي لا ينتزع أنابيب التّغذية الوريديّة في هذيانات الحمّى التي سببها الإدمان. كان يقاسمه الرّدهة خمسة مرضى يراقبون ما يجري بعيون برّاقة فزعة، وتحيط بهم غمامة قاتمة تلفّهم مثل هالة. كان يئنّ أنينا يشبه البكاء، وأمّه واقفة بالقرب من سريره، تمسح دموعا غزيرة من عينين يائستين تبحثان عن شيء لا تتمكّنان من العثور عليه. كان كاحل الشّابّ متورّما، وكذلك قدماه، وجسده مغطى بكدمات وآثار إبر وقروح، وهناك وشم بصورة رأس أسد ذي لبدة حمراء على كتفه اليسرى، وظلّ وجهه رغم ذلك محتفظا بوسامته. لو أنّني اكتفيت بالصّورة الشّعاعية التي كانت معروضة في غرفة الدّرس مثل لوحة، لكان أفضل لي. وهو يفحص الأشعّة السّينيّة، كان النّعمان يعلّمنا كيفيّة النّظر لا إلى المرض ذاته، بل إلى معناه.
تزداد صعوبة الإبداع الفني كلما تقدّم قطار الزمن إلى أمام، وواهمٌ من يعتقد بغير هذا الرأي، ذلك أن الرؤية باتت تقترب أكثر، وكأن الفنّ ينظر الآن إلى العالم من خلال عدسة مجهر.
هنالك في هذا العالم الرّحب ما هو مخيف وساحر في الآن عينه، وما يقوم به الفنّ هو أنّه يستخرج لنا السّحر من وسط أجواء الرّعب مثل الشّعرة من العجينة، كما يقول المثل، وهنا تكمن براعة السّاحر، الفنّان، وكلّما كانت المشقّة أكبر كان مفعول السّحر أقوى، ويبقى الجانب المشرق في الموضوع هو صدق التّجربة، واكتمالها، وهذا هو الشّرط الأهمّ، فلو أن رسّاما نقش شجرة على حبّة أرزّ فإنّ عليه أن يظهر للمشاهد العذاب التي تحمّلته الغصون بسبب العواصف الرّمليّة ونار الثّلج الكاوية، حتّى صورة الشّابّ المنتحر وهو يشنق نفسه بحبل مشدود بالغصن القويّ من الشّجرة... كلّ ما مرّ عليها من خطوب على الرّسّام لا شرحه لنا، بل تبيان معناه، مثلما بيّنت صورة أشعّة صدر الشّابّ ليوسف النّعمان جميع عذاباته.
يقال إنّ العالِم «روينتكن»، مكتشف الأشعّة السّينيّة، أخذ أوّل صورة شعاعيّة ليد زوجته، وهي ترى صورة عظامها وسط هالة من الدّكنة الضّبابيّة، قالت: إنّي أرى موتي. أظهرت الأشعّة عن قربٍ صورة موتها الجميل، والسّاحر، فالعظام هي القسم الأصعب منّا في المنازلة الأخيرة، وما يفعله الفنّ في جميع أشكاله لا يتعدّى تصوير هذه المنازلة، وتثبيتها.
جميع التعليقات 1
كريم سعدون
رائع ، مدخل جميل للوصول إلى الهدف