ثائر صالح
تعطينا سيرة حياة الموسيقي الألماني كارل هارتمان (1905 – 1963) درساً بليغاً في النزاهة المتعلقة بالموقف السياسي.
فهذا المؤلف المولود في بافاريا لم ينخدع بالدعاية النازية ولم يطبل لهتلر بل بالعكس، عبرّ عن رفضه لهذه السلطة التي جلبت الويلات لألمانيا وأوروبا. فقد قام بمنع تقديم أعماله في ألمانيا ولم ينشر أية أعمال جديدة طوال سنوات الرايخ الثالث. هذا الموقف أدّى إلى تكليفه من قبل الحلفاء بعد القضاء على النازية بمهمة إدارة دار الأوبرا الحكومية في بافاريا، إذ لم يجدوا شخصاً بمثل سجله الناصع. بالمقابل تعرّض موسيقيون مرموقون إلى انتقادات شديدة، مثل قائد فرقة برلين الفيلهارمونية فيلهلم فورتفنغلر (1886 – 1954)، فقد استغلت ماكنة غوبلز نشاطات الفرقة وبكل الوسائل الممكنة لتجييرها لصالح النازية رغم أنف فورتفنغلر الذي عمل المستحيل لإنقاذ أعضاء الفرقة اليهود، وكان يمقت النازية وهتلر. هذا يشير إلى الوضع المعقد في الفترة التي شهدت عملية اجتثاث النازية Denazification أو باللغة الألمانية Entnazifizierung بعملية تذكرنا بما حصل في العراق بعد 2003. هنا يجب أن نتذكر نقل الولايات المتحدة 785 عالم ومهندس ألماني كانوا يعملون في البرنامج الألماني للتسلح إلى الولايات المتحدة، شكلوا عماد البرنامج العسكري الأمريكي لاحقاً.
فقد تأثر هارتمان بأحداث الثورة البافارية بعد الحرب الأولى وانهيار الإمبراطورية، وتشكلت قناعاته بالعدالة والمثل الاشتراكية. درس هارتمان الموسيقى في ميونيخ لكنه اعتزل المساهمة في الحياة العامة بعد 1933، قدم عمله قصيدة سيمفونية «يا رب ارحم» في براغ سنة 1935، أهداه لذكرى أصدقائه الشهداء في معسكر داخاو النازي حيث اعتقل هتلر الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين وغيرهم من معارضيه مبكراً. من مؤلفاته في تلك الفترة كونشرتو الكمان (1939) التي تعد أشهر أعماله، ألفها بمثابة صيحة ألم بعد اجتياح هتلر لبلجيكا، أسماها موسيقى الحداد في البداية لكنه نقحها قليلاً سنة 1959 وغيّر أسمها الى الكونشرتو الجائزية (Concerto funebre). وكان قد هرّب مخطوطتها إلى سويسرا وقدمت فيها في 1940 لأول مرة.
أطلق بعد الحرب برنامجاً لتقديم الأعمال التي منعتها النازية، خاصة أعمال القرن العشرين، لكنه قدم في نفس الوقت أعمال الموسيقيين الشباب مثل هانس فرنر هنتسه (1926 - 2012) وكارل اورف (1895 - 1982) صاحب مجموعة كارمينا بورانا.
ألف ثمانية من السيمفونيات بعضها إعادة صياغة لأعمال اوركسترالية سابقة، وخمس اوبرات قصيرة (ألفها في العشرينات، قسم منها غير مكتمل)، وعدد من الأعمال التي تدخل في قالب الكونشرتو منها الكونشرتو الجنائزية المذكورة، بالإضافة إلى أعمال للحجرة منها رباعيتين وترية وسوناتات، وتوكاتا وفوغا الجاز مستلهمة من عمل باخ الشهير. تتميز أعماله باتباع الموسيقى المسماة لا تغمية أو لا تونية Atonality (وتسمى كذلك لا مقامية)، أي الابتعاد عن استعمال المراكز النغمية المميزة لسلالم الموسيقى، وهي تقنية طورها موسيقيو مدرسة فيينا الثانية مثل آرنولد شونبرغ وألبان برغ وانتون فيبرن الذي درس عنده هارتمان خلال سنوات الحرب الثانية. تأثر بموسيقى باخ ومالر وسترافنسكي، وتضمنت أعماله عناصر انطباعية وموتيفات الجاز وحتى الحان شعبية مجرية بسبب تأثره بالموسيقيين المجريين بارتوك وكوداي.