د. فالح الحمراني
أعلن العراق في الآونة الأخيرة، بشكل متزايد عن طموحاته للصدارة الإقليمية في المجال الاقتصادي*، بما في ذلك قطاع الأغذية الزراعية، ويعمل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، منذ ترأسه الحكومة قبل عامين بنشاط على تطوير الدبلوماسية الاقتصادية مع الدول المجاورة - سوريا وإيران وتركيا - في محاولة للبحث بشكل مشترك عن طرق لحل مشاكل الغذاء التي تشهدها الساحة الدولية،
وما يرتبط معها من التهديدات المناخية ذات الصلة بمنطقة الشرق الأوسط. وعلى وجه الخصوص، تتفاوض بغداد مع دول الجوار للتغلب بشكل مشترك على أزمة المياه التي اجتاحت المنطقة نتيجة أسوأ موجة جفاف في الآونة الأخيرة.
ومن الأدلة المهمة الأخرى على طموحات العراق الإقليمية على مسار المنتوجات الغذائية الزراعية توفير منصته للمؤتمر الوزاري الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وافتتح المؤتمر الإقليمي، الذي انطلق في 7 فبراير 2022، من قبل رئيس وزراء العراق، الذي دعا دول المنطقة إلى تجاوز التناقضات السياسية التي تقوض الانتعاش الاقتصادي للمنطقة، خاصة فيما يتعلق بضمان الغذاء والماء. الأمان.
وكانت الموضوع الرئيس في كلمة السيد الكاظمي عن أهمية ضمان التنمية المستدامة للمنطقة. ودعا دول المنطقة إلى الانطلاق على طريق تنفيذ مشاريع التنمية المستدامة لصالح جميع دول المنطقة، بما في ذلك مراعاة القضايا الحساسة العابرة للحدود مثل الوصول إلى الموارد المائية لنهري دجلة والفرات.
إن الدبلوماسية الإقليمية النشطة للعراق على مسار المواد الغذائية الزراعية ليست عرضية وآنية بل تمليها أسباب موضوعية: يظل القطاع الزراعي هو المفتاح لتوفير فرص العمل للجزء الأغلب من السكان ومصدرا حاسما لإنتاج سبل العيش. ولكن في السنوات الأخيرة، باتت التحديات المناخية تهدد بشكل متزايد بحرمان المزارعين من سبل العيش المهمة هذه. وبادئ ذي بدء، يدور الكلام عن مخاطر شحة المياه وندرتها. ووفقاً لخبراء البنك الدولي، يمكن أن يؤدي تغير المناخ إلى انخفاض في الموارد المائية بنسبة 20٪ بحلول عام 2050، مما سيؤثر أيضا على 30٪ من الأراضي الصالحة للزراعة. ويكمن السبب في الاحتباس الحراري: فعلى مدار الأربعين عاما الماضية، زادت درجة الحرارة في هذه المنطقة باستمرار بمعدل 0.4 درجة مئوية كل عقد. وبالتالي، فإن معدل الاحتباس الحراري في هذه المنطقة أعلى بكثير من المتوسط العالمي. هذه العملية التي لا رجعة فيها، دون اتخاذ تدابير مناسبة، يمكن أن تؤدي إلى خسائر كبيرة في مختلف قطاعات الاقتصاد وزيادة في البطالة.
وينطوي موضوع الوصول إلى الموارد المائية على طابع عابر الحدود، وبطبيعته ويتطلب دبلوماسية إقليمية نشطة وتعاونا فعالا مع الجيران - وفي المقام الأول تركيا وإيران وسوريا. وفي هذا السياق، تضطر حكومة السيد الكاظمي إلى التحرك اليوم وتضع هذه القضية في مقدمة سياستها الاجتماعية والاقتصادية. إن إنشاء سدود جديدة من قبل الدول المجاورة على نهري دجلة والفرات يخلق أخطارا إضافية للعراق. وهذا العامل، إلى جانب استخدام المزارعين العراقيين لتقنيات قديمة لاستخدام الأراضي وأنظمة الري القديمة، يؤدي إلى خسائر كبيرة في الموارد المائية، ويمكن أن يصبح تحديا إنسانيا جديدًا للحكومة العراقية. وعلى وجه الخصوص يؤدي تدمير القطاع الزراعي إلى زيادة هجرة السكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، مما يخلق عبئا إضافيا على البنية التحتية الاجتماعية، ويؤدي إلى زيادة البطالة والفقر والجوع في المدن الكبرى الحضرية.
وهناك عامل مهم آخر في السياسة الإقليمية النشطة لبغداد على الجبهة الزراعية يتمثل بالرغبة في توفير الوصول إلى التقنيات والابتكارات الزراعية الحيوية. وهذه هي الطريقة الأكثر فعالية لتقليل الاعتماد على إمدادات المياه من خلال التحول إلى تقنيات توفير المياه وتوفير الطاقة، بما في ذلك الزراعة الدقيقة والري بالتنقيط وتحلية مياه البحر، إلخ.
إن الإمارات العربية المتحدة وإلى حد ما، قطر والمملكة العربية السعودية والكويت تعتبران الرواد في المنطقة في نقل الصناعة التقنية إلى القطاع الزراعي واجهت مشاكل مماثلة، لكنها نجحت على هذا الطريق. وإذا تم اختيار مثل هذا الاتجاه للتعاون الإقليمي، فإن حكومة السيد الكاظمي قد تواجه أصعب مهمة للتغلب على الخلافات السياسية والأيديولوجية مع بعض الدول الخليجية، من أجل إقامة تفاعل وتبادل تكنولوجي عملي ومفيد للطرفين.. وربما سيكون من الصعب للغاية القيام بهذه المهمة، مع الأخذ بعين الاعتبار كل الفروق السياسية، وقبل كل شيء، بسبب هيمنة العامل الطائفي المقيت. ففي حكومة السيد الكاظمي، 11 حقيبة وزارية رئيسية من أصل 21، بما في ذلك مناصب الملف الشخصي لوزراء الزراعة والطاقة والبيئة والموارد المائية بيد ممثلي طائفة واحدة. ولكن من وجهة نظر عملية، فإن الوصول إلى التقنيات الحديثة يمكن أن يكون حلاً سريعا لأزمة المياه.
حافز آخر مهم لتطوير التعاون الإقليمي في مجال الزراعة هو اعتماد بغداد المتزايد على إمدادات الكهرباء الإيرانية. فالعراق يفتقر إلى تكنولوجيا تنقية الغاز الطبيعي الحديثة لتطبيقات التبريد وتكييف الهواء، وهو مجبر على استيراد الطاقة من إيران المجاورة لتلبية احتياجات الطاقة المتزايدة، بما في ذلك في قطاع الأغذية لأنظمة تخزين الأغذية وسلاسل التبريد. وعلى خلفية ارتفاع درجات الحرارة والاحتباس الحراري، تتزايد الحاجة إلى واردات الكهرباء الإيرانية.
وعلى هذا النحو، فإن حكومة الكاظمي تظهر بكل الطرق الممكنة الرغبة في لعب دور فعال على مسار التنمية الزراعية الغذائية على المستوى الإقليمي، بحكم العوامل الداخلية التي لها تأثير مباشر على آفاق مجمل التنمية الاقتصاد للبلاد، بما في ذلك الأمن الغذائي، والموارد المائية، والطاقة، والبيئة الطبيعية...إلخ. وعلى الرغم من الحصة المتواضعة نسبيا للقطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي الوطني (5٪)، يوفر هذا القطاع فرص عمل لـ 20٪ من سكان العراق، وهو عامل مهم في التنمية الاقتصادية المحلية والاستقرار. وسيؤدي الاحترار العالمي وتنامي التهديدات المناخية الخارجية على المدى الطويل، إلى زيادة الاعتماد الاقتصادي المتبادل للعراق من البلدان المجاورة في منطقة الشرق الأوسط. وتدرك بغداد اليوم بوضوح أنه بدون دبلوماسية إقليمية نشطة في مجالات المياه والطاقة والتكنولوجيا والتعاون على مسار الأغذية الزراعية، حتى في ظل وجود خلافات سياسية، فإن حل القضايا المعقدة العابرة للحدود غير ممكن.
* اعتمدت المادة على دراسة نشرت في موقع معهد الشرق الأوسط