ستار كاووش
محبة الناس لك لا تُقدر بثمن، والتواصل الجميل معهم هو ما يجعل حياتك أكثر جمالاً وأُلفة، ويغذي أيامك بالهدوء. هذا ما أردده مع نفسي منذ سنوات وأنا أزيح في كل مرة جزء من مزاجي القديم عن كاهلي وأُبعد الجدية التي تبدو أحياناً ليست في محلها.
أيامنا ستنقضي، فلِمَ نضع المساحيق التي لا تناسب لون بشرتنا، ونتلبس التعابير التي تعيق عفويتنا؟ لذا فكرتُ منذ سنوات على أن أُغَيَّر حياتي تدريجياً، وأخذتُ أبتسم لهذا أو ذاك وسط الطريق، أُبادر بالتلويح للآخرين، وأُقدمُ أشياءً للبعض حتـى لو كانت صغيرة، لا أتردد بالإختلاط بالناس الغرباء أو ممن يبدون بأمزجة مختلفة، حتى أني صرتُ أبادر في المقهى لدفعِ دورة شراب للجالسين قربي، مثلما يفعل ذلك الكثيرون معي أيضاً. وهذا كله لا يكلفني سوى قليلاً من الإنتباه والإهتمام، لكنه يَعني الكثير للناس القريبين مني ويكون لنتائجه عظيم الأثر. المحبة تُصنع من خلال التصرفات والأفعال الصغيرة، بل هي تُسقى مثل الزهور تماماً، والصداقات تكبر وتنمو جراء الإهتمام بها ورعايتها. حتى الأشياء التي تبدو لنا عابرة أو تحدث بالمصادفة، هي في الحقيقة تأتيك لأنك زرعت بذورها في وقت سابق بالفعل، وقمتَ بتنشيط إهتمامك بها، لذا عليك إستيعاب فكرة عودتها إليكَ يوماً ما بطريقة جديدة وشكلٍ معين. ومهما كانت المسميات، فهناك لحظات عفوية جميلة في حياتنا، لحظات تبقى عالقة في الذهن ومستقرة في الذاكرة، انها إنتباهات جمالية تعكس جوهرنا، تشبه تحية ملونة أو تلويحة حانية وتبادل أمتنان. هكذا ينفتح الباب إمامك بشكل مفاجيء لتنكشفَ من خلاله معادن الناس وذهب النفوس وروعة الانسجام. كما إنفتحَ بابي ذات يوم من أيام الكريسمس وأطلَّ عليَّ شيء صغير ومفاجيء، لكنه أسعدني كثيراً وقتها. فقد كنتُ منشغلاً يومها في مرسمي القديم، وكان لابد من التوقف عن الرسم للذهاب للمتجر القريب لتبضع الطعام والشراب، لكن الإنشغال بالألوان أصابني بالخدر الممزوج بالمتعة، لذا واصلت الرسم، ومع كل تفصيل جديد في اللوحة يتأجل خروجي الى المتجر. وبينما أنا على تلك الحال، أجاهد في إلغاء فكرة التسوق، رنَّ الجرس في الخارج، فتحت الباب وإذا بإمرأة تحمل علبة كبيرة مغلفة بغلاف ملون، تشبه الهدايا التي تُقَدَّم في الأعياد. تعرفتُ عليها فوراً لأني كنت قد رأيتها عدة مرات في مقهى العمة ماري. وبعد تبادل التحية، دعوتها للدخول، فإعتذرت قائلة بأن زوجها ينتظرها في السيارة، ثم فاجئتني وهي تمد يدها نحوي قائلة (هذه هدية صغيرة لك بمناسبة الكريسمس) فشكرتها كثيراً وودعتها على أمل لقاء قريب في المقهى. في الداخل فتحت العلبة بغطائها اللماع، فوجدتُ بداخلها قنينة نبيذ وقطعة خبز مستطيلة الشكل محشوة باللوز وقطع التفاح، كذلك بعض المعجنات الصغيرة وقطعة كبيرة مثلثة الشكل من الجبن وشَدَّة من مقانق الفلاحين وقطعة داكنة من الشوكولاتة! ها هو إذن الأكل والشراب يأتيني الى عتبة الباب، فيالها من مصادفة مذهلة! ولا أعرف حقاً إن كانت محض مصادفة. لا داعي للتبضع إذن في ذلك اليوم، فكل ما أحتاجه قد توفرَ الآن بشكل مثالي. بعد فترة حين رأيت ذات المرأة في المقهى، تبادلنا الحديث، وسألتها عن السبب الذي جعلها تقدم لي هذه الأشياء الجميلة، وهل هي توزع ذلك على الناس دائماً؟ فأجابت (هناك إتفاق بيني وبين زوجي، على إختيار شخصاً معيناً عند إقتراب نهاية كل سنة، ونقدم له هدية صغيرة من هذا النوع بمناسبة الكريسمس، وفي المرة الأخيرة التي جئنا فيها الى المقهى، كنا نبحثُ عن الشخص الذي سنختاره، وفجأة لَمَحَكَ زوجي وأنتَ تحمل بسعادة صينية مليئة بشراب إشتريته لتقدمه لإصدقائك، حينها فكرنا أن نعيد لك شيئاً صغيراً لتحتفل به) وأكملت حديثها (في ذات المساء طلبنا عنوانك من العمة ماري صاحبة المكان، وبقية التفاصيل أنت تعرفها).