TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > بأيّة عيون نرى العالم ؟ تلك هي المسألة !!

بأيّة عيون نرى العالم ؟ تلك هي المسألة !!

نشر في: 13 فبراير, 2022: 11:27 م

 لطفية الدليمي

ظلّ سؤال (ماهو الواقع؟)، ويبدو أنهّ سيظلُّ، واحداً من الأسئلة الوجودية التي ستكون دوماً عُرْضة للتغيير والتعديل مع كلّ إنعطافة معرفية في العلوم والتقنية، ومن المتوقّع أن تنعكس آثار هذه الانعطافات المعرفية على ميدان التفكير الفلسفي ؛ ولكن في كلّ الأحوال يبدو وكأنّه قانون عام أن لايكون الواقع كما يبدو لنا، وهنا أنا أستعيرُ عنوان كتاب الفيزيائي (كارلو روفيللي) الذي كتب كتاباً ممتازاً بعنوان (الواقع ليس كما يبدو)، وقد ترجِم إلى العربية.

لكن لندعْ جانباً الأطروحة الفلسفية الخاصة بالواقع، وكذلك المقاربات الفيزيائية المتغيّرة له على المستوى المفاهيمي، ولنتناول الواقع كما يختبره إنسان عادي بقدرات ذهنية عادية (تتماشى مع المعدّل المتوسط السائد في العالم). كيف يرى هذا الانسان الواقع (أو بمعنى آخر، العالَمَ)؟ من أين تتأتى خبراته التي ستتكفل بصناعة الصورة التي يختزنها عقله عن العالم؟

لايمكنُ لأيّ منّا أن يصنع صورة للعالم بواسطة خبراته العيانية المباشرة لأسباب منطقية تفرضها معيقات زمانية ومكانية. كم هي الأماكن التي يمكنُ لأكثر الناس عشقاً للسفر أن يروها؟ بوسعهم أن يشاهدوا كلّ زاوية قصية في هذا العالم؟ ذلك أمر محال في الحقيقة ؛ ثمّ حتى لو افترضنا مقدرة هؤلاء على هذا الامر ؛ فهل سيكون بمقدروهم تجاوز الانتقالات الزمنية وتوابعها في اللحظة المباشرة؟ أي بمعنى آخر: لو رأيتَ واشنطن العاصمة في خمسينات أو ستينات القرن العشرين فهل ستكون خبرتك من هذه الرؤية متطابقة مع خبرتك الناجمة عن رؤيتك لها في أيامنا هذه؟ الجواب بالتأكيد: كلا. ثمّ أنّ تطوّرنا العقلي ومستويات خبرتنا تتفاوت مع الزمن فهي ليست ثوابت فيزيائية، ومن الطبيعي أن يلعب هذا الثلاثي المركّب (الزمان، المكان، التطوّر العقلي الفردي وخلفيتنا الفكرية) دوراً معقداً في تشكيل صورتنا عن العالم.

ماذا يترتّبُ على هذه الحقيقة؟ يترتّبُ عليها ضرورةٌ لابدّ منها: أن نرى العالم بعيون آخرين ؛ لكن بأية عيون أخرى نرى العالم؟ تلك هي المسألة الأكثر خطورة، وتترتّبُ عليها تبعاتٌ خطيرة هي الأخرى.

دعونا نقاربُ الموضوع بواقعة اختبرتها بنفسي على اليوتيوب. بعد أن رأيتُ الرئيس الأمريكي بايدن يتفوّه بكلمات نابية - لاتليق بشخص ذي كياسة معقولة – وجهها لصحفي أمريكي، اعتزمتُ أن أتابعُ أخبار التضخّم السعري الذي يضربُ الولايات المتحدة والعالم بعدها، ثم شاهدتُ قبل بضعة أيام فيديو على اليوتيوب لشخص مصري يتحدّثُ بحماسة فائقة ويصفُ أحوال أمريكا وكأن الساعة ستقوم فيها لامحالة: كان يصوّرُ مشاهد من طوابير طويلة لسيارات في مرأب عام، وقد إتخذ أصحاب هذه السيارات منها ملاذاً ينامون فيه بعد أن طُرِدوا من شققهم الصغيرة لعجزهم عن تسديد إيجاراتها التي تضاعفت كثيراً. يخرجُ المرء إثرَ مشاهدة هذا الفديو وكأن معظم الأمريكان ذوي الدخل الواطيء من الذين يعملون بنظام الساعات المدفوعة (وهم الأغلبية في أمريكا) صاروا مشرّدين يستجدون لقمتهم من الآخرين ؛ بل وباتوا عاجزين عن شراء شطيرة همبرغر بسيطة من سلسلة مطاعم ماكدونالدز وشبيهاتها. الحقُّ أنّ المرء يتعاطفُ مع هؤلاء المساكين، ويرى نفسه ملكاً متوّجاُ بالمقارنة مع أوضاعهم. تابعتُ بعد هذا الفيديو فيديوهات عديدة تناولت الموضوع ذاته (بفضل نظام الخوارزميات الذي يقود إلى فيديوهات عن المواضيع ذاتها)، وكان أحد تلك الفيديوهات مصنوعاً للرد على صاحب الفيديو الأوّل. كان صاحب الفيديو الثاني مصرياً أيضاً، يتحدّث بهدوء ومن غير حماسة مفتعلة، وأوضح أنّ موجة الارتفاعات السعرية لم تطَلْ كلّ شيء وإنما السكن على وجه التحديد وبعض المواد الغذائية بسبب تلكؤ سلاسل التوريد، وأنّ الارتفاع إقتصر على ولايات كبيرة ثلاث هي نيويورك وفلوريدا وكاليفورنيا، وقال انّ هذا أمرٌ طبيعي يحصلُ بين فترة وأخرى بسبب عوامل كثيرة هي جزء متأصّلٌ من طبيعة الأزمات الدورية في كلّ نظام اقتصادي رأسمالي فضلاً عن عوامل مؤثرة خارجية منها إرتفاع أسعار النفط. أما بشأن طوابير السيارات التي ينام فيها أصحابها فقال الرجل أنّ تلك ليست بظاهرة غريبة أبداً في أمريكا التي هاجر إليها منذ عشرين سنة، وأتى بمثال عن طالبة أمريكية يعرفها تدرسُ في جامعة كورنل بمدينة إيثاكا في نيويورك ؛ إذ بعد أن أكملت دراستها قرّرت أن تضغط مصاريفها وتقتصد في كلفة إيجار شقة عن طريق النوم في سيارتها الخاصة، وفكرتها منطقية بالتأكيد: لماذا أسدّدُ إيجاراً شهرياً لشقة صغيرة (ستوديو) يقتربُ من ألفي دولار في حين يمكنني توفير مبالغ هذه الايجارات المتراكمة وشراء شقة صغيرة في ولاية أمريكية غير تلك الولايات الثلاث؟ هكذا بدأت الصورة تتضح لي شيئاً فشيئاً، ثمّ صادف أمرٌ غريب: إذ شاهدتُ بعد بضعة أيام الشخص الأوّل ذاته في فيديو جديد يقولُ أنه كان يقصدُ بكلامه ولايات ثلاثاً هي نيويورك وفلوريدا وكاليفورنيا، وأنّ الأمور ليست كما تصوّرها الناس - وبخاصة المصريون – الذين وصف بلادهم بأنها لاتساوي شيئا ولايمكن أن ترقى إلى مستوى أمريكا بأيّ حال من الأحوال !!. بقليل من المراجعة أتضحت أركان الصورة: كان الرجل يقصدُ كلّ كلمة قالها في الفيديو الأوّل، وأراد نقل صورة ديستوبية عن واقع الحال في أمريكا ؛ لكن عندما رأى أنّ المصريين صاروا يتحدّثون عن جوانب من التقدّم الاقتصادي والعمراني في بلادهم غاظه هذا الأمر، وعندما حسب الأمر بموازينه الآيديولوجية فضّل أن يناقض نفسه ويقول أنّ الأمر ليس جحيماً في أمريكا، ولايمكن أن يقارن ببلده مصر التي لم يرَ فيها أكثر من بلد في غاية التخلف. لماذا حصل أمرٌ كهذا؟ لأن هذا الرجل غلّب الآيديولوجيا على الحقيقة. هو - ببساطة - يدعمُ فكر جماعة سياسية – دينية تناهضُ فكر القيادة السياسية في مصر. هنا لابدّ من تأشير حقيقة أنّ مصر واحدةٌ من البلدان الخمسين الأعلى في مؤشر الناتج المحلّي الإجمالي الذي قارب الأربعمائة مليار دولار عام 2021 ؛ فكيف تكون مصر بهذا الوصف السيء رغم كلّ المظاهر الخادعة التي قد تُخفي الحقيقة عن عيون الباحثين الجادّين؟

سيسارعُ كثيرون للتهليل وتأكيد فكرتهم عن عصر التفاهة الذي صار الخصيصة الأبرز لعصرنا، وسيقتبسون فقرات مطوّلة من كتاب المؤلف الكندي آلان دونو، وسترتاحُ نفوسهم وستطربها نشوة الاسترخاء وهم يرون إنزلاق العالم نحو مايحسبونه تفاهة شاملة. هل كان العالم من قبلُ ميدان سمو وارتقاء؟ لقد عاشت التفاهة وتعيشُ معنا في كلّ عصر وكلّ مكان، ولن يجدينا الاتكاء على آلية دفاعية بائسة تسعى لتعميم صورة التفاهة وتبخيس قيمة كلّ الأشياء، جميلها والتافه منها، لتدفعنا الى التخلي عن الـتفكّر في أوضاع هذا العالم. الأفضلُ والأجدى لأمثال هؤلاء أن يغادروا هذا التكاسل العقلي، ولايرتكنوا إلى مواضعة نفسية جوهرها: إذا كان العالمُ مستوطنة للتفاهة فلماذا أجهِدُ عقلي في إستكشاف مكامن الجمال الأخلاقي والنزاهة الفكرية والمادية؟

ماالعملُ إزاء هذه الحقيقة؟ الجوابُ هو أن لانقبل بسهولة كلّ مايطرُق أسماعنا من بيانات ومشاهدات، وأن ندقق المعلومات من مصادر متعددة ونرى مقدار المصداقية فيها، وأن نستقي المعلومات من مصادر معروفة بدقتها ؛ إذ ليس من يقرأ الأيكونومست أو النيويورك التايمز أو الكتب الصادرة عن جامعات كبرى مثل كمبردج وبرينستون كمن يرى مشاهد فيديوية على اليوتيوب أو يطالع معلومات سياحية في فيسبوك أو تويتر. صحيحٌ أنّ العنصر الآيديولوجي قد يكون دافعاً محرّكاً لايمكن إخفاؤه (هل يمكننا مثلاً نكران دعم صحيفة الواشنطن بوست للحزب الديمقراطي؟) ؛ لكن هناك حدودٌ ضيقة لِما يمكن المناورة بشأنه وإلا عاقب الجمهورُ مصدر المعلومة (صحيفة او مجلة أو قناة فضائية) بعقوبات قاسية معروفة في العالم الغربي.

صورتنا عن الواقع (العالم) هي صناعة ذهنية تتكفلُ بها عقولنا مستعينة بالمعلومات التي تلتقطها إدراكاتنا الحسية، وبدوافعنا النفسية التي هي حصيلة خبرتنا في الحياة، مخطيء من يشكّل صورة عن هذا العالم مستعيناً بمعلومات هي في التحليل الدقيق جزءٌ من تفكير رغائبي لدى آخرين، أو هي معلومات يقصدون ترويجها ويسعون لتضليلنا بها لدوافع مسبقة يتبنّونها ويتحرّكون على أساسها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: أحلام المشهداني

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

قناديل: بغدادُنا في القلب

عنوانان للدولة العميقة: "الإيجابية.. و"السلبية"

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

 علي حسين ما معنى أن تتفرغ وزارة الداخلية لملاحقة النوادي الاجتماعية بقرارات " قرقوشية " ، وترسل قواتها المدججة لمطاردة من تسول له نفسه الاقتراب من محلات بيع الخمور، في الوقت نفسه لا...
علي حسين

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
د. فالح الحمراني

السرد وأفق الإدراك التاريخي

إسماعيل نوري الربيعي جاك لوغوف في كتابه "التاريخ والذاكرة" يكرس الكثير من الجهد سعيا نحول تفحص العلاقة المعقدة، القائمة بين الوعي التاريخي والذاكرة الجماعية. وقد مثل هذا المنجز الفكري، مساهمة مهمة في الكتابة التاريخية،...
إسماعيل نوري الربيعي

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

توماس ليبلتييه ترجمة: عدوية الهلالي بالنسبة للبعض، تعتبر الرغبة في استعمار الفضاء مشروعًا مجنونًا ويجب أن يكون مجرد خيال علمي. وبالنسبة للآخرين، فإنه على العكس من ذلك التزام أخلاقي بإنقاذ البشرية من نهاية لا...
توماس ليبلتييه
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram