حيدر المحسن
يقال إن للمال القدرة على جلب كلّ شيء، إلّا السعادة. مررت في أحد الأيام أمام بيت من تلك التي تدلّ واجهتها على الغنى، وقبل أن أكمل طريقي سمعت صرخة امرأة كانت تتلقّى الضرب بالسياط أو ربما بالعصا. ثم آمنت من وقتها بفكرة بورخيس عن البيوت، فهي إما أن تكون مبنيّة في الجحيم، أو في الجنة.
في المقهى والمطعم والحانة... حتى في المشفى تحتكّ كتفاك بالناس، وتحسّ بهم بضعة منك، وتستطيع الاتصال والتواصل معهم، حتى بين الأشخاص غير السعداء، أولئك الذين خبروا الفقد والخسارة، في السجن أو في المأتم، ويشذّ من هذا مكانان هما المصرف ودار المزاد...
جميع الأثاث والحاجات البرّاقة المعروضة للبيع في دار «الأطرقجي» للمزاد تدلّ على الثراء واليسار: تماثيلُ ضخمة من النّحاس لأسود ونمور ونسانيس وزرافات وبوم، ومكتبة من خشب داكن ليس فيها غير أدراج يبلغ عددها 55 درجا، إذا فُتحت كلها تبدو بهيأة وحش له عدد مماثل من الأفواه، وأرائك وكراسٍ منجدة بقماش تمكّننا رائحته من الاحتفاظ بنمط الحياة القديمة المختبئة في الأثاث بمقدار النصف، أما النصف الآخر فقد تعرض للنسيان، ومزهريّات وأباريق وسكريات وسماورات وشمعدانات تملأ الدار بحياة صامتة، بالإضافة إلى ساعات تثرثر رقّاصاتها بحميمية مصدرها لمحة جادتْ بها على زمننا الأزمان القديمة، والأمر الشاقّ على الفهم هو أن من يدفع أموالا طائلة في سبيل المتاجرة بهذه الحاجات وفق مبدإِ (زينة وخزينة) لا يدرك هذه اللمحة التي تقلّبت في الأزمان طويلا، لتستقر أخيرا في عصرنا، وقد صارت كئيبة وضعيفة.
سكن سعدي يوسف في أحد الأيام غرفةً في فندق، وكان يشعر بالغربة المضاعفة، وبالظّلمة في كلّ ما حوله، الكرسيّ الواقف على ثلاث قوائم، وخزانة الثياب الفارغة، والحيطان العمياء. يبحث الشّاعر عن ورقة، أو ما يشبه الورقة -القصيدة مكتوبة في الثمانينات حيث لا حاسبة في ذلك الزمان- كي يدوّن عليها الواجب اليوميّ من الشعر، كما لو كان ذلك تمرينا على بقاء الشّاعر حيا. أخيرا يعثر سعدي على الورقة: إنها المرآة!
في دار «الأطرقجي» للمزاد غمرني شعور بأني أتنفس هواء شحيحا، وهنا تساءلت مع سعدي: هل لي بورقة؟
هي الدقائق والساعات التي يكون فيها المال كلَّ ما في الوجود، وهو زمان مفتوح على الأبد، حيث يشعر الجميع بتفاهة الحياة لأن من يقرّر مصيرها المال وحده، وصاحب المال وحده ومالكه ورأسه. هل يمكن مسح هذا الوجود بمنديل لغرض تنظيفه؟ حتى الأعمال التي صنعتها يد الفنّ تفقد ما تمتلك من قدسية الإبداع وجلاله عندما تتحوّل إلى شيك مصرفيّ، ويصير عندها دار المزاد يشبه بنكا، لا شيء فيه غير صُنان النقود، وهذا يشبه ما في مادة النفط من نتانة، وهناك من قال إن كان لليأس رائحة فهو رائحة النفط...
في دار الأطرقجي عثرتُ على ورقة سعدي يوسف وأنا أغادر هرج الأسعار والمزايدات وعالم الثّراء وقرع المطرقة عندما يبلغ سلّم الدّولار منتهاه. ودّعتُ هذا الجوّ الغريب عندما بدؤوا بتوزيع البيتزا والحلويّات والمرطّبات. وكان أن عثرت أخيرا على ورقتي، أو سمّها مرآتي: امرأة تجلس على «كنبة» مع ابنتيها، وكانت النّسوة تائهات في المكان، مثلي. إنّها لحظة مبهجة رؤية من يشبهك في التّفكير والاهتمام. لا يعني لهنّ أمر السّجّادة التي صُنعت من حرير «قُم» قبل مئتي عام، ولا يَطرقُ ذهنَهنّ أو وجدانَهنّ من الأشياء الشّكردان والسّماور والقنديل الثّمين جدا. أغلى ما نعثر عليه في الوجود هو البسيط والكامل، والشّمعة أثمن من القنديل الذي سعره 345 دولارا، والبساط الفقير أجمل من كلّ ما أخرجته «قم» و»أصفهان» و»تبريز» من إبداع.
النّسوة التّائهات كنّ ورقتي التي عليها أكتب مقالتي، وكذلك مرآتي، تطالعني بصورة وجهي كلّ صباح. في قصيدة أخرى لشاعرنا، من ديوانه “قصائد نيويورك” نقرأ:
ثَمَّ مبانٍ تلاشتْ ملامحها
واستكنّتْ إلى بعضها قد توحّدَ مرأى الكنيسة والبنك...
وأكتب أنا في مكان النّقاط “ودار المزاد”.
جميع التعليقات 1
عدي باش
حسب علم النفس .. الشراهة في الأكل و إكتناز المال و إقتناء الأشياء الباذخة دليل خواء روحي عميق