متابعة/ المدى
بدموع وزغاريد انطلقت من ملعب جذع النخلة في محافظة البصرة جنوبي العراق، احتفلت أم عراقية وهي تشاهد -لأول مرة- تخرج ابنها (من الصم والبكم) من أكاديمية المحاربين.
تأسست الأكاديمية بشكل طوعي بالكامل، لاحتواء واستقبال ذوي الهمم من أصحاب الإعاقات، لتدريسهم المناهج التي تدرس في القطاع التعليمي الحكومي، إضافة إلى تأهيلهم وصقل مواهبهم.
وتم تخريج الدفعة الأولى للأكاديمية مؤخرا، وبلغ عددها 50 طالبا، وسينتقل هؤلاء الخريجون إلى مرحلة الإنتاج بالحرف -التي باتوا يتقنونها- كالعزف والرسم والنحت، والاعتماد على إنتاجهم الشخصي، من باب الدعم لأعمالهم وغرس روح الثقة والاعتماد على النفس، وذلك بعد تدريس وتدريب استمر على مدى 3 أعوام.
الكرفان
تقول الصيدلانية تالة الخليل، صاحبة فكرة أكاديمية المحاربين، إن الفكرة بدأت عام 2015، عندما خصصت كرفانا في مستشفى الأطفال التخصصي في البصرة (جنوبي العراق) لاحتواء مرضى السرطان من الأطفال لغرس الأمل فيهم ليكونوا طموحين، ومنها استنبطت تالة اسم "أكاديمية المحاربين".
وأوضحت أنها لاحظت أن الأطفال المصابين بالسرطان يعانون ظروفا قاسية، من أبرزها عدم القدرة على إكمال دراستهم، أو الاندماج بين الناس، أو حتى إيجاد فسحة أمل لحياتهم؛ فهم محاطون بالمرض والدواء، وجدران المشفى، فكان هذا "الكرفان" بمثابة مساحة جديدة، تعيد الأمل إلى قلوبهم المحطمة.
أول أكاديمية طوعية
شرعت تالة -التي بدأت بجمع الصغار داخل هذا الكرفان، لتدريسهم، وتعليمهم الرسم والغناء- في توسيع فكرتها، بعدما لاقت تجاوبا وانشراحا، واستجابة أكبر من الصغار؛ إذ تمكنت من الحصول على دعم من البنك المركزي العراقي، لتوفير مبنى مؤثث بشكل متكامل لمدة 3 سنوات.
وتقول إن الأكاديمية انطلقت في البداية "بـ100 محارب من المرضى وذوي الهمم"، على أن يتم إيجاد موقع بديل بتمويل من البنك المركزي أيضا.
وأضافت تالة أنها -قبل افتتاح الأكاديمية- حاولت إقناع "وزارة التربية" لقبول الطلبة الأطفال داخل أروقة مدارسها، وقوبل طلبها بالرفض، مؤكدة أن هذه الفئة هي أكثر من يستحق التقدير والتعليم المكثف والاحتواء، لكن إهمالهم ورفضهم وأحيانا مقابلتهم بالسخرية جعلهم محبطين.
وأوضحت -في حديثها للجزيرة نت- أن الفكرة لم تأت كمدرسة نموذجية تعلمهم الكتب التدريسية فقط، بل كمرحلة إعداد الطفل مرة أخرى، ليتمكن من محبة نفسه، والثقة بها، وليتوقف عن التذمر، خاصة عندما يقارن حاله بغيره ممن في عمره.
ومن أبرز خطوات الأكاديمية معرفة اهتمامات واكتشاف مهارات الأطفال والتركيز عليها، وتطويرها، من أجل وضع الطفل في المكان المناسب.
ماما تالة
لم يكن الأمر سهلا بالنسبة لتالة، التي واجهت صعوبات جمة، حتى تمكنت من أن يكون "أبناؤها" بمقر آمن وظروف صحية ونفسية جيدة؛ فأطفال الأكاديمية ينادونها "ماما"، وهي متمسكة بهم وتحبهم، ولا تتخيل حياتها بدونهم، كما تقول.
وأوضحت أنها استقبلت في الأكاديمية منذ عام 2015 أكثر من 600 طفل من ذوي الهمم، وذلك بالتعاون مع مجموعة من المتطوعين يشرفون على أعمال الأكاديمية، منطلقين من أهمية تقديم الرعاية النفسية والعلمية لمنتسبي الأكاديمية.
وتقول تالة إنها تمكنت مع أطفالها من تأسيس مصنع صغير يتبع الأكاديمية يعمل على إعادة تدوير المواد القديمة وتحويلها إلى أثاث منزلي، مما مكنهم من تجهيز العديد من المؤسسات والمهرجانات بمنتجاتهم، إلى جانب إنتاج مجموعة من الإنارات الحديثة، التي تزين سقوف غرف الأكاديمية، مضيفة أنه تم عرض جميع هذه المقتنيات داخل معرض الأكاديمية، لبيعها لتكون مصدر دخل لصانعيها.
دور الأكاديمية
والحالات التي تقوم باستقبالها الأكاديمية الطوعية من مصابي متلازمة داون، والتوحد، والصم والبكم، وتأخر النمو، وضعف النطق، والإعاقة الذهنية وغيرها، حيث يندمج الصغار معا داخل صفوف الأكاديمية، لتعلم الحاسوب واللغات، والإلكترونيات، والأهم -حسبما توضح تالة الخليل- هو التركيز على الجانب الإبداعي لهم.
ولفتت تالة إلى أن الفترة الأولى لاستقبال الأطفال هي الأصعب، ذلك أن الطفل يكون -في العادة- غير معتاد على الانخراط في المجتمع، وغير قادر على التكيف بسبب وضعه.
نماذج النجاح
يزن لؤي (19 عاما) -أحد طلبة الأكاديمية وهو مصاب بمتلازمة داون- كان يعاني من صعوبة النطق، إضافة إلى اتصافه بالعدوانية، ولكن بعد انضمامه للأكاديمية، تم إخضاعه لمراقبة أطباء متخصصين لعام ونصف العام مع توفير الدعم المعنوي والعاطفي، ثم ارتياد يزن لصف الحرف اليدوية، وصناعة المجسمات الصغيرة. يقول عنه والده "ابني صار يحب نفسه، بعد أن شاهد الحب الحقيقي من معلميه، وبدأ الاستجابة فعليا للتدريس والتدريب. لقد استطاع أن ينطق المفردات، لأول مرة في حياته".
أما عيسى خالد، فهو وحيد والدته -وهي صاحبة مرض مزمن- وكانت تضطر لقضاء أوقات طويلة في التنقل بين المستشفيات، لأجلها ولأجل صغيرها المصاب بالتوحد، وهو ما انعكس على ولدها، وأشارت أمه إلى أن نومه كان لا يتجاوز ساعتين في اليوم، إضافة إلى اتصافه بالعنف، وتكسير كل ما يصادفه.
وعن استفادة ولدها من الأكاديمية، أوضحت أم عيسى أنها بدأت -لأول مرة منذ 13 عاما- النوم هانئة البال، وذلك بعد انضمامه للأكاديمية، وأضافت أن ولدها -بعد انضمامه للأكاديمية- تمت معالجته نفسيا وتوجيه إفراط حركته وطاقته إلى الرياضة والرسم، حيث أخذ يميز بين الأفعال والتصرفات، وصار يستطيع -بعد أن أصبح عمره اليوم 18 عاما- أن يُعد الطعام لنفسه، بعد أن كان يتعمد سكب وجباته على ثيابه.
وتوضح تالة أن من أشد حالات الأطفال التي لا يزال الفريق يبذل قصارى جهده لاحتوائها، هي حكاية المحارب محمد الذي يبلغ حاليا 16 سنة؛ إذ تم تشخيصه على أنه من ضعاف السمع والنطق، إضافة لكونه مصابا بمتلازمة داون، "لم ينطق محمد أكثر من 3 كلمات طوال حياته، حتى أصبح عرضة للتنمر في الشارع. ونتيجة لصعوبة التواصل معه، تعرض للضرب من قبل أساتذة المراكز التي التحق بها في طفولته سابقا…"، مضيفة أنه تم رفضه من قبل مراكز عديدة، إضافة لعدم وجود مراكز متخصصة لتعليم لغة الإشارة لأطفال متلازمة داون.
وعند التحاق محمد بالأكاديمية، تم تعليمه لغة الإشارة وعلاجه بالموسيقى، من خلال تدريبه ليصبح اليوم أحد أعضاء الفرقة الموسيقية للمحاربين التي تحيي الأغاني البصرية، وتلفت تالة إلى أن لحظة إمساكه القلم بيديه، وكتابته حروفه الأولى في عامه الـ18، كانت إحدى أعظم اللحظات.
يستحقون الحب والحياة
مدربة الإتيكيت في الأكاديمية زينب عبد الأمير، تقول عندما انضممت للأكاديمية، دخلت اختبارا مكثفا لكيفية التعامل الحذر جدا مع الطلبة، فلم يكن الموضوع سهلا، لكنه كان قريبا للقلب؛ لأنها وجدت في أرواح هؤلاء الصغار الكثير من الشغف للحياة والحب.
وتعلم زينب الطلبة أسلوب الحياة، وتقوم بالتركيز -بصورة أدق- على فكرة إدراكهم لمختلف مجالات الحياة. وتدريبهم على أصول الإتيكيت، وإزالة الطباع العدائية والحدية تدريجيا، ليصبحوا بمرور الوقت طبيعيين كي يندمجوا بالمجتمع.
وتؤكد زينب -للجزيرة نت- أن العمل مع أطفال الأكاديمية ساعدها كثيرا على اكتساب الخبرات، معتبرة أن هؤلاء الأطفال "وبفطرتهم" يجبرون الآخرين على أن يكونوا أكثر إنسانية، لما يظهرونه من مشاعر وحب حقيقي وإخلاص.
المصدر : الجزيرة