محمود عبد الوهاب في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، كانت جريدة " البصرة " من الصحف الرائجة في مدينتنا، وكان صاحبها كامل العبايجي على علاقة حسنة بعدد من الشباب، كنت أنا من بينهم. غالباً ما كنتَ تجدني في إدارة الجريدة، يُطلعني صاحبها على عدد من القصائد
والقصص وكتابات النقد التي يرسلها إلى الجريدة مَنْ له اهتمام بالكتابة ورغبة في النشر من مثقفي المدينة وأدبائها. في تلك السنوات كانت أحلامنا تتّقد، تلاحقنا كما تلاحقنا حقيقة الواقع أيضاً، غير أن مساحة أحلامنا، كانت تتسع حتى لم تـُبقِ للواقع سوى هامش ضئيل. كنّا أغنياء حلماً، نبصر ما حولنا بعيني ما نقرأ، وكنـّا نرى دائماً أن اليوتوبيا التي زرعتها القراءة فينا، واقع سنمكث فيه قريباً، وهكذا ظلّ الحلم موقدنا، يُلهب بجمراته رغباتنا حتى أصبحنا مثل شخوص رواية نكون داخل أوراقها في أبهى صورة، على غير ما نحن عليه في واقعنا. كان الروائي مهدي الصقر يزورني كلّ مساء في إدارة الجريدة، وأحياناً كنت أصطحبه معي، وكان يطّلع على بعض ما يُرسَـل من نصوص إلى الجريدة، حتى بدأت الصفحة الثقافية تثير اهتمام الكتاب والقراء من الشباب، ما حمل الصقر على المشاركة في تقويم ما يُنشر فيها، وقد استحدثنا عموداً خاصاً، كان دليلاً للحركات الأدبية ومدارسها والمصطلحات الثقافية الجديدة، وكان الصقر يسهم في ترجمة بعض مواده. شجعني هذا التحوّل في الصفحة الثقافية على أن أترجم قصصاً قصيرةً لعدد من كبار الكتاب المعروفين، فقد ترجمت في عام 1955 قصة " قطة في المطر " و " المخيم الهندي " و " العجوز على الجسر " لهمنغواي، وترجمت أيضاً قصة " هروب " و " سارق الحصان " و " الصورة " لكالدويل و قصة " الدرس الأخير " للفونس دوديه و قصة " سائق عربة الشحن " لمورافيا ، نشرت كلها في الصفحة الثقافية.اتسعت المشاركة في الصفحة الثقافية، واتفقنا مهدي الصقر وأنا، على أن نشترك معاً في كتابة رواية تنشر في الصفحة الثقافية على حلقات، وربما كانت هذه المحاولة اقتفاءً برواية " القصر المسحور " التي اشترك في كتابتها طه حسين وتوفيق الحكيم، وبدأنا ننشر في كلّ أسبوع حلقة من حلقات الرواية، وكانت متعتنا مثل متعة لاعبي الشطرنج، كلّ منا يريد أن يوقع صاحبه في موقف صعب، كان مهدي يضعني في نهاية الحلقة التي يكتبها في زاوية ملتبسة من الرواية يصعب اختراقها، كأنْ يصطنع حدثاً مركّباً داخل الحكاية، و كنتُ أفعل مثله في الحلقة التي أكتبها،وكنا فرحين بما نفعل، لا تهمنا الرواية بقدر ما تهمنا لعبة الرواية، وبعد حلقات اكتملت نصاً جميلاً كنّا نعتزّ به في تلك السنوات. بعد أكثر من ثلاثة عقود ونحن في حالة من حالات الاستذكار، سألت مهدي حينما انتقل إلى بغداد : ماذا كان عنوان تلك الرواية ؟. حاول مهدي أن يتذكر، وحاولت أنا أيضاً، لكننا، كلينا، لم يستطع. كنّا في سنوات الخمسينيات نجهل ماذا يعني التأريخ الأدبي، ولم نكن ندرك ماذا تعني أهمية لعبتنا في الرواية المشتركة في كتاباتنا المبكرة. سألت مهدي مرة أخرى : هل تحتفظ بنسخة منها ؟. استغرق مهدي في الضحك، وهو يسند ظهره إلى الكرسي قائلاً : تعني تـــلك اللعبة ؟. أجبته : لا. أعني ذلـك الحلم. بعد لحظات من الاستذكار، أخذنا نستعيد بوعي حاضرنا، خسارتنا. وكأنّ ما كنا نكتبه آنذاك عرَض يومي وليس منجزاً محكوماً بحقبته، كانت تلك المحاولة أول رواية كتبناها في البدايات، هي حلمنا المغدور الذي لم نمسك به والذي تناثر عبر عقود عاصفة من الزمن، لم تترك بعدها أثراً لشيء.
اوراق ..أحلام مغدورة
نشر في: 22 يونيو, 2010: 04:43 م