TOP

جريدة المدى > عام > حسين الهنداوي.. الفلسفة البابلية حضور مستقبلي

حسين الهنداوي.. الفلسفة البابلية حضور مستقبلي

نشر في: 19 فبراير, 2022: 11:08 م

ناجح المعموري

د. حسين الهنداوي باحث جريء وشجاع، وايضا مغامر، ذهب الى ما لم يفكر به كثير من الذي ذهبوا الى الفلسفة.

والذين لم يفكر احدهم بالحوار مع الهنداوي، من اجل اشباع الاسئلة التي قدمها استهلالاً لبحثه المهم، والذي سيظل منفتحاً لاستدعاء الآراء وما دامت الفلسفة اسئلة بحاجة لأجوبة، فهي ستظل بانتظار مستمر لمن لديه اهتمام حقيقي بالأصول الثقافية والمعرفية، واعني بهذه الملاحظة العديد من الاصدقاء الذين كتبوا عن هوامش الفلسفة. ما يمكن اثارته حول المتحقق للأستاذ الهنداوي، وهو انه فتح باباً اوسع، واعني به التشارك مع الاستشراق الذي دائماً ما يغلق الابواب على الشرق واعلن اتهاماته بأن الشرق لا يعرف الفلسفة وهنا بهذه الملاحظة يتجاوز أولاً على عدد من مفكريه الذين دحضوا هذا الموقف معروف الاسباب والدوافع واطلق ــ في الوقت نفسه ــ النار على ــ الثقافة الشرقية والسؤال الذي سأكرره مرات، لماذا صمت حشد الاساتذة عن الحوار مع الهنداوي ومع الخطاب الاستشراقي؟ ربما نستمع لملاحظات ولهذا افتراض ان التحفظات حاضرة. وهذا مُسعد الهنداوي لاتساع باب الحوار. ولكن استمرار الصمت حول اتهامات الاستشراق غير العميقة والتي تسكنها ملاحظات بسيطة يلوح بها التاريخ لحضارة الشرق واذهب نحو تحديد اكثر وهو جغرافية بلاد وادي الرافدين.

هذه المقدمة بسيطة، لكنها جوهرية، لأنها منحت فجر الهنداوي خاصية مهمة وتسلحت بالعقل وذهبت نحو الجدل، لا بالصراع عندما قشرت الثقافة العراقية والمعرفة الحضارية التي انجزها العقل العراقي، او البنية الذهنية الاسطورية من خلال الطقوس والعقائد، الاساطير، الشعائر والسحريات، الادب الملاحم كل هذا التراث العظيم الممتد والمكرس في هذه الجغرافية واستفاد منه الاخر كثيراً ولكن بحياء وخجل، لأنه لم يجرأ ــ باستثناء قلائل على قول الحقائق التي توصل اليها بعد جهود مهمة للغاية، مشكور عليها بعد الحفريات الواسعة التي قام بها من اجل التعرف وبذلك هو وحده الذي اعلن عبر كشوفه عن الملحمة بتأسيس درس التوارتيات بعد التوصل لقراءات عن اسطورة الطوفان في ملحمة جلجامش والتي نسخها التوارتيون. ارجو ان لا يستغرب القراء وبعض الاصدقاء من هذا الرأي الذي حركته اجوبة كثيرة حصلت عليها بعد سنوات من البحث في التوراة وانجازي لعديد من المصادر المهمة الخاصة بالتوراة وتسللها للثقافة والمعرفة العراقية والتي قشرها بشجاعة مثلما قلت د. حسين الهنداوي.

واجد ضرورة قصوى تذكير وزارة التعليم العالي والجامعات التي فيها والتي صمتت هي ايضا، ولكن ضغط عناصر الهوية والاصول المبكرة لفواعل العراقية وذهب قسم الفلسفة في كليات الآداب واقام بدورة ثقافية متسعة للحوار ما توصل له د. حسين الهنداوي وتدخل المنظمات الثقافية والفنية في العراق لإغناء الحوار، ونساهم معاً بتأسيس تقليد حيوي، يضعنا وجهاً لوجه لما نحتاجه الان. في صراع الهويات والجدل ما كان وما سيكون وباختصار شديد ومع كل الاسف اختصر القول مع مداعبة بريئة واقول مسكينة جامعاتنا وكلياتنا التي لا تعاين الحاضر ولا تفكر بمكونات ثقافتنا عناصر التي تومئ لماض مجيد، لا يمكن الصمت عنه وتجاهله مأخوذين بإغواء الاخر وعبر الرأي ادعو الكليات التخصصية لتبني هذا المشروع واتحاد الادباء يذهب مع الجميع لإقامة مؤتمر حول الفلسفة البابلية ويتبنى مشروع نفقات ما يحصل وحتماً سيكون للكليات الاهلية حضور بالدعم وتحرير ما سيتمخض عن الفعاليات كتباً.

اكدت الدراسات الغربية على دور مصر القديمة في العلوم والفلسفة ولذلك سبب له علاقة بالتمركز الغربي وعلاقة مصر مع بلاد الاغريق التي لم تستجب للتأثير السومري ولم تعلن ذلك مع العلم بأن الثقافة السومرية ازدهرت بين 3700ــ 2350ق. م اي قبل ستة عقود من ظهور حضارة مصر الفرعونية بين 2700 2770 ق. م.

اكد د. حسين الهنداوي بأن الفلسفة البابلية او بداياتها لم تكن معلومة البداية ومحددة بتاريخ معين ومقترنة باسم معروف ارتبطت بها، بل هي عبارة تمثل منظومات متصاعدة وككل تطوري وبهيئة تأملات عقلية اولى ومتصاعدة التطور عن الوجود واللاوجود والعالمين الالهي والطبيعي وعلاقتهما، لكن هذا الاستنتاج لا يغير واقع طغيان الطابع الرمزي على صياغات تلك التأملات، ما دام ذلك يتعلق بفلسفيته وعدم فلسفة تلك الافكار انما فقط بطريقة التعبير عنها.

اشرت المراحل الزمنية والتاريخية وجود عديد من الدول والسلالات تنوع العقائد والثقافات ذات الحضور المهيمن، بحيث مثلت هوية متميزة لجماعة من الجماعات ونشأ حوار بينها وتصاعد الى جدل استمر سنوات عديدة... لكن اللحظة البابلية تمثل الاكثر تبلوراً وتأثيراً وكشفاً عن تلك الروح « وهذا ما عبرت عنه النصوص المبكرية المحفوظة كمدونات على الرقم والوثائق واكد د. الهنداوي بأن دراسته الرائدة اعتمدت على بعض من تلك الوثائق، وبهذا فانه يؤكد بدئية ملاحظاته وبكريتها في تسجيل ما هو جوهري، وهذا الامر الحيوي ساعدنا على معرفة ما نحتاجه عن حياة العراقيين في تلك الفترات التاريخية اكثر مما نعرف عن حياة الاوربيين خلال العصور الوسطى، مثلما اكد على ذلك احد اشهر علماء الاشوريات « جان بوتيرور « والمشهور بكثير من كتبه الحيوية عن العراق القديم، ولعل الملفت لاهم انجازاته المبكرة « المطبخ الاقدم في العالم « وفي البدء كانت الالهة « ولهذا العالم دور كبير ومنطقي في دراساته المهمة للغاية وهذا الذي قال بالدور الذي لعبته الالهة في الذهاب نحو الفلسفة، اي انها الفلسفة لم تكن مثلما متحقق بالنسبة للأخر. واطلق د. الهنداوي رأيا جازماً مثيراً للانتباه اكد فيه على ان ما توفر من معلومات ووثائق ثقافية لها علاقة بالدين والطقوس والسحريات تقدم الدلائل على ان العراقيين القدماء اشتغلوا بالفلسفة، وما يدعمهم هو المتوفر من المعلومات التي تؤكد على اسبقيتهم على الاغريق. (واذا اخذنا الفلسفة باعتبارها محاولة كشف عبر قوى العقل المحض وحده، عن (الحقائق) الكونية العليا كماهية الذات الالهية واصل الوجود وخلق الانسان وغاية التاريخ. وعن مبادئها الجوهرية وعلتها الاولى واسباب وغائية عالم الظواهر ص13/الفلسفة.

المثير في بحث د. الهنداوي المقدمة التي قدمها بغرارة معلوماتها بتمهيدية كشكل من انواع الاستهلال البحثي، حتى يتمكن الباحث بخبرته من عقد علاقة رصينة وقوية مع المتلقي من خلال تزويره بمعلومات تمهيدية تمسك بالقارئ المعني وبعد هذا التقديم الذكي ابتدأ د. حسين الهنداوي تفسير ما يعنيه بالثقافة والفكر الفلسفي البابلي، الذي تكون معتمداً على منطق داخلي تغذى على كثير من النصوص السومرية والبابلية والاكدية والاشورية، سواء الدينية والادبية والقانونية والاقتصادية والذي نستطيع عبر ادواتنا الراهنة فرزه بعد تجريده من ادوات التعبير التمثيلية او القصصية او الشعرية او الطقوسية، واعادة صياغته قدر الامكان بصيغة (المفهوم) الخاصة بالفلسفة كفكر محض او قائم بذاته. وفي قطيعه كلية عن كل ما تميز الدين او الادب او الفن او القانون من طرق تعبير. محددة من انشطة روحية ومراسيم خاصة. لان ما يهمنا منها هو جانبها العقلي المحض والذي هو مضمونها الفلسفي / ص14.

اكدت حقائق الكشوف الاثارية في جغرافيات الشرق المجاور والحضارة العراق القديم على وجود كميات هائلة من الوقائع والحقائق، والتي لم يترجم منها الا القليل واشارت دراسات الاخر المترجمة والتي سجلت جهوده الاستشراقية والعلمية على ان الالواح الرافدينية وجدت في سوريا وفلسطين ومصر وكرست وكشفت معلومات الكشوف، على ان الثقافة العراقية البدئية وفكرها خضع لبدايات اولية واستجاب تدريجياً لتطور طبيعي مستجيب لمنطق مكتسب واكدت تلك المعلومات مثلما ذكر د. حسين الهنداوي على ان الانسان هو الركن الجوهري، بمعنى سيادة العقل، لذا ذكر د. فوزي رشيد بأن العقل العراقي مميز بتطوره التدريجي والالهة هي مصدر الاول الذي انتج المعقولية والبراغماتية ومن اهدافها الحياة الامنة والتجدد والانبعاث والعدل والروحانية. ووثق د. فوزي رشيد هذا في الاسطورة السومرية « اشنان «: البشر الاوائل لم يعرفوا اكل الخبز في البدء... ولم يعرفوا اراتداء الملابس بعد.... وكانوا يسيرون على ايديهم وارجلهم... وكالخراف يعلفون العشب، ومن القنوات يشربون الماء...»

سجلت الفلسفة البابلية بوقف مبكر الحداثة وتحقق تغيرات ثقافية كبرى لم تحصل في جغرافيات الشرق. وهذا ما سجلته اسطورة الخلق البابلية وذكرها د. حسين الهنداوي ملحمة الخلق وهي ليست كذلك انها اسطورة وهذا ما تشير عليه العناصر البنائية الفنية، الملحمة تحتاج وثائق تاريخية ومركز مديني وحضور ملك ياخذ دور القائد. ركزت « حينما كنا في العلى « على الصراع بين خطاب الذكورة والانوثة في بلاد وداي الرافدين. واقترح البانثيون العراقي بآلهته الكبرى ضرورة التخلص من الالهة « تيامت « الهة العماء وما تسببه مع الالهة الصغار من صخب. وازعاج وبذل الالهة جهداً لاقناع احد الالهة القادر على منازلة « تيامت « الام الكبرى مع عناصرها التي تسلحت بها، لم يستجيب احد من الالهة الكبار... لكن المثير استجاب الاله مردوخ وهو اله شاب من سوريا، اندهش الالهة وقرروا دعمه بكل ما يمكنه على المنازلة والانتصار فيها. لذا تنازل الالهة ــ اكثر من خمسين الهاً ــ عن عناصرهم الثقافية والدينية والسحرية لتتحول الى مكونات لمروخ وهذا لم يحصل في ديانة سابقة وحضارة من اللاتي عرفها الشرق.

انتصر الاله مردوخ وصار الهاً قومياً. ومثل هذا الحدث الكبير رسم صورة مكبرة وواضحة للغاية لم يسبقها احد الالهة في جغرافيات الشرق، هذا يعني ان بابل وعقلها الفلسفي هي الاولى التي عرفت ــ الحداثة ــ التي لم تكن قد تحققت في بلدان الغرب وظل هذا الاله العظيم خاضعاً لسيرورة مستمرة وقاد تحولاً توفرت له شروطاً موضوعية وذاتية، لذا انبثق التفريد البابلي قوياً وافضى نحو اليهودية، كأول دين توحيدي، بينما تفريد اخناتون واجه مقاومة عنيفة جداً من رجال اللاهوت ولم يقوا اخناتون على الاستمرار فانهار تفريده.

من قبل كهنة امون واشتعلت الانتفاضة في طيبة وتحالفت كل القوى وتم قتل اخناتون وانهارت التفريدية وظل مردوخ شامخاً والسبب المنطقي هو سيادة العقل وقوته في بابل، لان الالهة هم الذي رأوا التحول الجديد الذي سيجعل من بابل امبراطورية كبرى وكما قال هيرودوت: بابل تفوق كم مدن الارض قاطبة رأي هيرودوت عن بابل مشكوك فيه، لان ما كتبه برحلته عن المدينة دحضه د. نائل حنون وما كتبه ــ كما قال حنون ــ منقول عن اراء سابقة ولم يؤشر د. الهنداوي مصدر للرأي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram