لطفية الدليمي
« هناك أشياء كثيرة في الأرض والسماء ياهوراشيو غير التي حلمت بها في فلسفتك «: بهذه العبارة يخاطب هاملت صديقه هوراشيو، مؤشراً إلى حقيقة وجودية جوهرها « استيلاء النقص على جُملة البشر « كما يعبر عماد الدين الاصفهاني. النقص هنا، وهو نقصٌ معرفي، ليس نقصاً معيباً أو مثلبة أخلاقية بقدر ماهو إشارة إلى طبيعة ملازمة للوجود البشري.
لنقلْ أنه خصيصة إبستمولوجية لامفرّ من نكرانها أو الالتفاف عليها لأنها بعضُ طبائع المعرفة البشرية التي تقترن بعاملين ضديدين لبعضهما: تفجّر معرفي من جانب، وتضاؤل في المعرفة الفردية من جانب آخر.
يعيشُ أغلبنا غير مبالٍ بهذه الخصيصة الملازمة للوجود البشري ؛ فهو يكتفي بأن يلمّ بجانب من المعرفة ليطوّعها بصورة عملية تكفلُ له خبرة محدّدة في نطاق ما، وهو مايتكفّلُ بتدبير متطلبات عيشه. هكذا نشأ المتخصّص Specialist ،ونشأت المهنة Career المعتمدة على تخصص في نطاق عملي أو أكاديمي، وتطوّر الامر حتى استحال قبولاً جمعياً على نطاق عالمي.
لكن هناك أناسٌ لايقتنعون بهذه الترسيمة القارّة. قد يكون هؤلاء من المتخصّصين؛ لكنّ صدورهم تضيق لو مكثوا في نطاق مهنهم أو تخصّصاتهم وقتاً طويلاً؛ لذا يفرِدُ هؤلاء جزءً من يومهم للبحث والاستكشاف في نطاقات معرفية غير التي تخصّصوا فيها، يتحوّل هذا الطقس غالبا إلى عادة يومية: ساعتان أو ثلاث ساعات ماقبل النوم - مثلاً - يفردُها المرء للقراءة في كتبٍ محدّدة قد تكون بعيدة للغاية عن نطاقه المعرفي. هي بعيدة بحسب مايعتقد الناس؛ لكنها ليست بعيدة بحسب مايرى الشخص الشغوف فهو وحده من يجد خيوطاً خفية ممتدة بين الحقول المعرفية. أمثالُ هؤلاء يوصفون في الأدبيات الحديثة بأنهم Multipotentialites،وتعريفهم الدقيق هو الناس الذين يجدون ولعاً طاغياً وشغفاً لامحدودا في إستكشاف نطاقات معرفية مختلفة، واكتشاف روابط خفية بينها، وهم لايطيقون المكوث في ميدان معرفي واحد، ولو أجبِروا على ذلك فقد يتطوّر الأمر لديهم إلى حالات إكتئاب عنيدة وتداعٍ في القدرة على العمل والانتاج؛ بل قد يستحيل الأمر ذهاناً عقلياً خطيراً له تبعاتٌ مأساوية.
لكن لنكنْ دقيقين ومحدّدين في توصيف الأمور: قد يجدُ العديد لذّة في بعض القراءات المغايرة لتخصصه ؛ غير أنّ هذا لايعني أنه صار من جماعة الـ Multipotentialites (ثمة صعوبة في اختزال المفردة في عبارة محدّدة!).مايميّز هؤلاء الأخيرين هو شغفٌ طاغٍ بلا حدود، وعملٌ مثابر لايعرف النكوص والتراخي، والانكباب على قراءات معرفية دقيقة وليس محض قراءات سياحية عابرة. نحنُ إزاء أناسٍ شديدي الانضباط ولديهم حساسية – تكاد أن تكون مرضية – تجاه فواعل الزمن. لايريدون إضاعة دقيقة من غير فعالية منتجة من وجهة نظرهم.
هل يمكنُ أن يكون أحدنا واحداً من هؤلاء الـ Multipotentialites ؟ نعم بالتأكيد، لو تملّك ذلك النوع الخارق وغير المعهود من الشغف، وامتلك وصلة إنترنت. الانترنت صار صندوق أعاجيب زمننا، فقد صار متاحا لنا كلّ ماتقدّمه كبريات الجامعات والمعاهد العالمية المرموقة وليس هناك من حجّة في نقص المصادر المعرفية التي تعيق شغفنا. يقدّم لنا الانترنت كلّ يوم نماذج متقدّمة من هؤلاء، وهم كثرٌ. هاكم مثالاً: سيهاو هوانغ، الصيني السنغافوري الاصل، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في شبابه، يدرسُ الفيزياء والرياضيات والهندسة الكهربائية وعلوم الحاسوب في معهد MIT المعروف بسمعته الأكاديمية العالمية، ويخطّط لتطبيق رياضيات النظم المعقدة على نطاق العلوم السياسية، وقبل مواصلة دراسته في قسم العلوم السياسية في MIT إرتأى أن يأخذ فسحة دراسية يقضيها في جامعة أكسفورد لدراسة منهاجها الدراسي الثلاثي الشهير في الفلسفة والاقتصاد والسياسة.
هاملت على حقّ بالتأكيد. سيكون طموحاً غير قابل للتحقق إن نحنُ سعينا لمعرفة كلّ مافي السماء والأرض؛ لكن يمكن لأحدنا أن يفهم أشياء – ولو قليلة – ممّا في السماء والأرض لو امتلك شغفاً جامحا، ووصلة إنترنت. تلك حقيقة ماثلة لاأظنها ستكون موضع خلاف بعد اليوم.