TOP

جريدة المدى > عام > معادلة الرب: السعيُ إلى نظرية كل شيء النهائية

معادلة الرب: السعيُ إلى نظرية كل شيء النهائية

نشر في: 22 فبراير, 2022: 11:36 م

لطفية الدليمي

نشأت معرفتي الأولى بـنظرية كل شيء Theory of Everything في سياق عبارة وردت على لسان الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ في إحدى محاضراته.

عبارة «نظرية كل شيء» تستبطن سحراً بقدر ما تبعث على الدهشة، ثم عرفت بعد شيء من بحث وتنقيب أن هذه النظرية هي بمثابة «حجر الفلاسفة» لدى الفيزيائيين المعاصرين؛ فهي تمثل تتويجاً لرؤيتهم الملحمية وجهدهم الأسطوري في محاولة بلوغ نظرية توحّد كل القوى الأساسية المعروفة في الطبيعة (وهي أربع قوى بحسب المتعارف عليه في أوساط الفيزيائيين)، وعند متابعتي الجهود العلمية المبذولة لتحقيق مسعى توحيد القوى عرفت أن ستيفن هوكينغ واحد من الفيزيائيين الأساسيين المساهمين في جهد بلوغ «نظرية كل شيء» في مطلع شبابه؛ لكنه انكفأ عن متابعة هذا الجهد الملحمي في أواخر سنواته.

يعودُ البروفسور ميتشيو كاكو Michio Kaku، أستاذ الفيزياء النظرية الأشهر على مستوى العالم والذي يعمل أستاذاً في جامعة ولاية نيويورك، لإتحافنا بكتاب جديد كعادته كلّ سنتين أو ثلاث سنوات. الكتاب الجديد جاء بعنوان:

معادلة الرب: السعي وراء نظرية لكل شيء

The God Equation: The Quest for a Theory of

Everything

وقد نشرته دار نشر «Doubleday» يوم 6 أبريل (نيسان) 2021 في حجم متوسط ضمّ 240 صفحة.

ميتشيو كاكو كاتب ومقدم برامج وثائقية علمية ذائع الشهرة، وقد حققت كتبه مبيعات كبرى طبقاً لقائمة «نيويورك تايمز» للكتب الأكثر مبيعاً، وسبق له نشر أكثر من 10 كتب مرجعية منها كتاباه الأخيران: مستقبل العقل The Future of the Mind، 2015، الذي نُشِرت ترجمته العربية عن «سلسلة عالم المعرفة» الكويتية، و مستقبل الإنسانية The Future of Humanity، 2018 (لم يترجم بعدُ الى العربية).

عندما اكتشف نيوتن قانون الجاذبية فقد عمل من الناحية الواقعية على توحيد القوانين التي تحكم السماء مع القوانين التي تحكم الأرض (وكلّ الموجودات المادية الكبيرة فيهما)، ومنذ ذلك الحين اندفع الفيزيائيون وراء سعي ملحمي لتوحيد كل القوى المعروفة في الطبيعة: الثقالة Gravity، الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية في إطار نظري واحد تعبرُ عنه معادلة توحيدية واحدة ؛ وبرغم تحقق نتائج كبرى في هذا الشأن فلاتزال المعضلة العصية التي تمثل التحدي الأعظم في هذا الميدان هي توحيد النظرية الكمومية Quantum Theory مع النسبية relativity، ولو تحقق هذا الإنجاز لكان في المستطاع عدّه الإنجاز الكبير الذي يرقى لمرتبة العثور على «الكأس المقدّسة» في تاريخ الفيزياء والعلم بعامّة.

كتاب كاكو أقربُ لجولة فكرية في تاريخ الفيزياء منذ عهد نيوتن وحتى يومنا هذا، وهو يوضّح بمقاربته - المفعمة بالحماسة الفكرية والأسلوب المشرق - المحطّات المفصلية في التطوّر المفاهيمي لـ«نظرية كل شيء»، والآراء المختلفة والمتضادة لكثير من الفيزيائيين الحاصلين على جائزة نوبل في الفيزياء. يستطيع القارئ عقب قراءة كتاب كاكو التصريح بثقة بأن هناك قليلاً من الكتّاب المناظرين لكاكو والقادرين على تجزئة الموضوع الفيزيائي إلى ذرات صغيرة من المعلومات القابلة للهضم والتمثل الفكري المنعش للعقل والروح.

يبدأ الكتاب مع نيوتن وآينشتاين، ثمّ ينعطف نحو الميكانيك الكمومي، وبعدها يتناول كاكو موضوعات المادة المظلمة، والطاقة المظلمة، والثقوب السوداء، ثمّ ينتهي مع الموضوعة الإشكالية الخاصة بـنظرية الأوتار String Theory، ويؤكّد كاكو في نهاية الكتاب على المعالم الأساسية في الخريطة الفكرية للفيزياء في عصرنا الراهن، كما يرسم شكل الخطوات اللاحقة التي يتوجب علينا المضي في استكشافها في السنوات والعقود المقبلة.

لاينسى كاكو في جولته التأريخية هذه أن يشير إلى مواضع مفصلية أعادت تشكيل رؤيتنا للكون؛ فقد أتاحت له مقاربته الزمنية الخطية توضيح مفاهيم أساسية، مثل: نظريات آينشتاين في النسبية (الخاصة والعامة)، و«جسيم هيغز البوزوني»، و«التناظر والتناظر الفائق»، وقد استطاع كاكو بطريقته المعهودة أن يبيّن الكيفية التي يمكن بها توظيف هذه المفاهيم في الإطار النظري الأكبر لـ«نظرية كل شيء» الكونية.

* * * * *

يكتب كاكو في مقدمته للكتاب “ التي أسماها مقدمة إلى النظرية النهائية “ الفقرات التالية:

كان مقدّراً للمعادلة النهائية أن تكون تتويجاً لنظرية نهائية تتأسسُ على هيكلية رياضياتية بوسعها توحيد كل القوى في الكون وتقديم توصيف دقيق لكلّ شيء: من حركة الكون المتوسّع إلى رقص الجسيمات دون الذرية في أبعاد غاية في الصغر. كان التحدي دوماً يكمن في كتابة معادلة في مقدور أناقتها الرياضياتية تجاوز كلّ الفيزياء المعروفة !

إنكبّ بعضُ أعاظم الفيزيائيين في العالم على هذا المسعى الملحمي ؛ حتى أنّ ستيفن هوكينغ قدّم محاضرة إختار لها عنواناً يطفح بالجذل والسعادة « هل النهاية باتت مرئية للفيزياء النظرية؟ « (إشارة إلى انتفاء الحاجة للفيزياء النظرية بعد بلوغ نظرية كل شيء الموعودة، المترجمة).

لو نجحنا في بلوغ مثل هذه النظرية فستكون تتويجاً لكلّ جهدنا الفيزيائي. ستكون الكأس المقدّسة في الفيزياء: صيغة رياضياتية مفردة يمكن للمرء – من حيث المبدأ – إشتقاق كلّ المعادلات الفيزيائية الأخرى منها، ابتداءً من الانفجار الكبير حتى نهاية الكون. ستكون هذه المعادلة هي المنتج النهائي لألفيْن من سنوات البحث العلمي المجهدة منذ أن تفكّر الأقدمون في السؤال الوجودي الأزلي: ممّ صُنِع العالم؟ «.

تلك رؤية تبهرُ الأنفاس.

ثمّ يمضي كاكو في فقرة أخرى من مقدمته الجميلة إختار لها عنوان « حلم آينشتاين «:

عرفتُ أوّل مرّة بحكاية هذا التحدّي الملحمي وأنا بعمر ثماني سنوات. أعلنت الصحف يومها أنّ عالماً عظيماً قد مات للتوّ (إشارة إلى وفاة آينشتاين عام 1955. كاكو مولود عام 1947، المترجمة). كانت ثمة صورةٌ لاتُنسى في كلّ الصحف: صورة لمكتب ذلك العالِم، وعليه دفتر ملاحظات. كتبت الصحف حينذاك أنّ العالِم الأعظم في زماننا لم يستطع إنهاء العمل الذي بدأه. تملّكتني الدهشة. ماالعمل الذي يمكن أن يكون بهذه الدرجة من الصعوبة بحيث يستعصي بلوغ حلّ مقبول له حتى على عقل آينشتاين العظيم؟

احتوى دفتر ملاحظات آينشتاين على مسوّدات نظريته غير المكتملة – تلك النظرية التي أسماها « نظرية المجال الموحّد «. سعى آينشتاين وراء معادلة، ربما لايتجاوز طولها بوصة واحدة، سيكون بوسعها جعله، وبكلماته هو، (يقرأ عقل الرب).

ثم يواصل كاكو في فقرات اخرى من مقدمته:

ليس أمرُ بلوغ المعادلة النهائية محض سؤال أكاديمي. كلّما كشف العلماء عن قوة جديدة كان ذلك الكشف كفيلاً بتغيير مسار الحضارة وتعديل مستقبل الإنسانية ؛ فعلى سبيل المثال: أسّس اكتشاف نيوتن لقوانين الحركة والثقالة الأرضية اللازمة لعصر الآلة والثورة الصناعية، وتفسيرات مايكل فراداي و جيمس كلارك ماكسويل بشأن طبيعة الكهربائية والمغناطيسية هي التي مهّدت الطريق نحو إضاءة مدننا والحصول على مولّدات ومحركات قوية فضلاً عن الاتصال اللحظي مع الآخرين، ومعادلة آينشتاين E = mc2 هي التي أوضحت لنا طبيعة الطاقة التي تزوّد النجوم وكشفت الغطاء عن القوة النووية، وعندما أزاح إرفين شرودنغر وفيرنر هايزنبرغ النقاب عن الأسرار الكامنة في قلب نظرية الكم فقد مهّدا الطريق إلى ثورة التقنية العالية التي نشهدها في يومنا هذا ممثلة في الحواسيب فائقة القدرة، وأجهزة الليزر الدقيقة، والانترنت.

يبقى الأمر منوطاً بعقلنا البشري في أن يطلق العنان لخياله ويتصوّر ماالذي يمكن أن تأتي لنا به نظرية موحّدة للقوى الفيزيائية من أعاجيب تقنية ليست لنا قدرة على تصورها في الوقت الحاضر.

كلّ أعاجيب التقنية الحديثة إنما تدينُ بأصولها إلى أولئك العلماء الذين إكتشفوا القوى الأساسية في العالم، ولو نجحنا في بلوغ نظرية « كل شيء « النهائية فقد يكون بمقدورنا حينذاك الإجابة على بعض أكثر الأحجيات والأسئلة غموضاً في تاريخ العلم كله، ومن تلك الأسئلة والأحجيات:

- ماالذي حصل قبل الانفجار الكبير؟ ولماذا حصل الانفجار في المقام الاول؟

- ماالذي يقع على الجانب الآخر من الثقب الأسود؟

- هل السفر عبر الزمن ممكن؟

- هل توجد ثقوب دودية wormholes إلى عوالم أخرى؟

- هل توجد أبعاد أعلى (من الابعاد الفيزيائية المعروفة، المترجمة)؟

- هل توجد عوالم متعددة Multiverse تعود لعوالم موازية؟

* * * * *

سيكون أمراً مشروعاً لو تساءل المرء بعد قراءة كتاب كاكو الجديد: هل سيكفّ العلماء عن السعي وراء حلم «نظرية كل شيء» حتى بعد تلك التأكيدات المثبّطة التي أبداها الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينغ بشأن إمكانية بلوغ تلك النظرية بعد أن كان من أوائل المبشّرين بها؟ يبدو لي أن حلم التوحيد هذا ينطلق من رؤية ميتافيزيقية تختلف تماماً عن الرؤية التقنية، وإذا كان هوكينغ أبدى شكوكه العميقة في بلوغ تلك النظرية الموحّدة ؛ فهو إنما يؤشر واقع الحال اللحظي الذي تبدو فيه الفيزياء في وضع إشكالي ينطوي على ثغرات كثيرة على صعيد الرؤى الفيزيائية والتقنيات التي تتطلبها الرياضيات والتي تبدو غير مكتشفة في وقتنا الحاضر، وقد تكون الكثرة من المعادلات تمهيداً أولياً وقتياً باتجاه بلوغ المعادلة الواحدة التي صارت بمثابة «حجر الفلاسفة» الذي يبحث عنه الفيزيائيون المعاصرون.

لكن يبقى السؤال الجوهري ماثلاً أمامنا: لماذا هذا الهوس الطاغي بالمعادلة الواحدة بدل الكثرة من المعادلات؟ يستبطن هذا الأمر - كما يبدو لدارسي الفكر والفلسفة وتأريخ الأفكار - قناعة ميتافيزيقية غير مُسبّبة ترى الحقيقة الكبرى مخبوءة في ثنايا مواضعات أولية بسيطة تنطوي على قدر عظيم من الجمال والأناقة (بالمعنى الرياضياتي عندما نتعامل في حقل الصياغات الرمزية). ثمة في العقل البشري (وبخاصة في الفيزياء) توق ممضّ يرى الراحة والسكينة في الحقائق المضغوطة القليلة بدل الكثيرة، وتلك واقعة نرى نظيراً لها في تراثنا الفلسفي العربي الذي أكّد على الأهمية الحاسمة لـلكليات Universals، وقد شاركته الفلسفة الإغريقية في ذلك الأمر، ولعلّ المسعى الملحمي وراء «نظرية كل شيء» هو بعض صدى تلك الفلسفات الغابرة التي لن تخفت جذوتها على مرّ الأيام.

ليس من شك في أن العديد من الناس لا يحبون الفيزياء مطلقاً بمثل ما يحبها (بل بمثل ما يعشقها) كاكو ونظراؤه، وربما ابتعد العديد منّا في حياتهم عن دراسة العلم لأنهم اعتقدوا (وربما قيل لهم من آخرين) أن الفيزياء موضوع شاق لايستطيعه غيرُ قلّة من العباقرة، والحق أن معرفة بعض العناوين الفرعية في أي كتاب يتناول ميكانيك الكمّ - على سبيل المثال - لهي مجلبة لصداع كثيرين ؛ لكن الأعاجيب المدهشة التي ينطوي عليها كونُنا يمكن (بل يتوجب) أن تستثير شغف كلّ واحدٍ منا، فضلاً عن أن امتلاك معرفة أساسية في الفيزياء أمرٌ لا يقتضي الانغمار في دراسة تمتد طول العمر بعض القراءات العامة في كتب ومقررات دراسية مجانية على النت تكفي لمن لايستطيع إلى الدراسة المعمّقة سبيلاً، أو لايهوى خوض بعض تفاصيلها المثيرة. شيءقليل من معرفة خير من جهل مطبق.

استطاع كاكو في كتابه هذا أن يبيّن واحداً من أسباب كثيرة تجعل الفيزياء على هذا القدر الهائل من الإدهاش، ولماذا غدت علماً أساسياً، وماالسبب الذي يجعلها مادة جوهرية وحاسمة في فهمنا للعالم. يمثّلُ المنظور المتعاظم والمدى الواسع للفيزياء في يومنا هذا حدوداً تصيب المرء بالدهشة ؛ فالفيزياء هي التي جعلتنا نعرف اليوم مم تتكوّنُ كلّ الأشياء (تقريباً) التي نراها في العالم وكيف تترابط مكوّناتها معاً، والفيزياء هي التي مكّنتنا من تتبّع التأريخ التطوّري للكون بأكمله وحتى الأجزاء البسيطة من الثانية الأولى التي أعقبت نشأة الفضاء والزمان كليهما، والفيزياء هي التي ساعدتنا (بواسطة معرفتنا الدقيقة بالقوانين الفيزيائية التي تحكمُ الطبيعة) على تطوير - والاستمرار في تطوير - التقنيات التي أحدثت انتقالات جذرية في حياتنا، والفيزياء هي التي صنعت – ولم تزل تفعل – كلّ مصادر ثروة هذا العالم. هذا بعضُ مايؤكده كاكو في حواراته وكتبه.

ثمة شيء واحد أنا موقنة بمصداقيته: لو استطاع كل شغوفٍ بالعلم - والفيزياء خاصة - قراءة كتاب كاكو بلغته الأصلية - أو مُترجماً كما آمل - فسيكون قد حظي بمتعة كبرى هي من أعظم المتع الفكرية المتاحة في حياتنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram