جمال خضير الجنابيلقد اكدت تجارب جميع الشعوب وحتى البدائية منها، ان الشعر يقترن اقترانا وثيقا بالايقاع والموسيقى الشعرية وان الايقاع ليس شيئا عرضيا، او زينة خارجية يمكن طرحها بسهولة، وعلى الرغم من ثراء الدراسات والبحوث الجمالية والنقدية العالمية والعربية اماطة اللثام عن الكثير من اسرار الشعر الداخلية الا انها لم تكشف بشكل كامل وبطريقة مقنعة الدور الخطير الذي يحتله الايقاع الشعري في التجربة الشعرية،
ولماذا يكتسب هذا الايقاع انساقا موسيقية وعروضية مختلفة حسب التنوع في التجارب والمواقف الشعرية نفسها . ويخيل لي ان من اخطر اسرار الشعر غير معلنة تلك الجذوة الايقاعية والموسيقية السرية التي تمتلئ بها القصيدة والتي تجعل من اللغة الاعتيادية لغة شعرية متوترة ومشحونة بكهيربات مستفزة وغير مرئية وهذا ما نراه في قصائد الشاعر(عبد الله كوران) فهي لها قدرة على التأثير على المخيلة والسمع والاعصاب بطريقة مذهلة رغم ما تفقده من جمالية التكوين، من نقلها الى لغة اخرى . ففي قصيدة(ايتها الصبية الحسناء) التي نقلها الى العربية السيد(محمد صابر محمود) يقول : (الا ايتها الصبية الحسناء.. يا ذات الحسن والجمال علام تقذف بك اضاليل الدل والبهاء الى سماوات من العجب والكبرياء لن تدوم الملاحة والرواء.. لاحد ابد الدهر..) فلابد اساسا من توفر مقومات الخطاب الشعري الابداعي بما فيه من(شعرية تجعله يختلف اساسا عن الخطاب الاعتيادي، وحتى عن الخطاب النثري، فالخطاب الشعري بوصفه(رسالة) يرتد نحو ذاته لتفجير(الوظيفة الشعرية) بمفهوم(باكوبسن) ليغدو نصا شعريا .(كل ربيع سوف ينسل مسرعا كالبرق ايتها الصبية الحسناء.. يا وردة باهرة السيماء يامن تتوج هامتك الان نشوة الاغترار.. لسوف ترين ذات يوم، وقد تساقطت اشلاء تحت اقدام المشيب والعجز.. لتستحيل هناك نثارا من غبار..) . فالشاعر ت.س اليوت يرى(ان موسيقى الشعر هي تمكن الفاظ الشعر من تعدى عالم الوعي والوصول الى العالم الذي يتجاوز حدود الوعي التي تقف دونها الالفاظ) ويمكن الاشارة هنا الى اهمية اراء(كوليردج) على ان(الوزن ينزع الى زيادة الحيوية والحساسية في المشاعر العامة وفي الانتباه) اما(بيتس) فيبالغ الى حد القول (ان الوزن يخلق في الذهن حالة من الغيبوبة اليقظة ) ويخلص (ايتشاروز) في كتابه(مبادئ النقد الادبي) الى نتيجة خطيرة وهي(ان وصفنا الصادق للوزن بانه مخدر او مهيج او جليل او تأملي او مرح دليل على قدرة الوزن على التحكم في الانفعال على شكل مباشر) . (الا ايتها الصبية الحسناء.. ان كنت تدفعين بالالاف مثلي الان بسحرك الفتان.. صرعى في حبائل العشق والجنون.. وبابتسامة استلطاف من شفتيك اذ ترفان تملئين صدور الاف مثلي بالهوى والهيام) . ان اي نزوع حداثي لتحديث البنية الايقاعية للقصيدة الحدثية او لقصيدة النثر يجب ان يتم في اطار الاعتراف بمشروعية الايقاع الشعري والموسيقى الداخلية . ويأخذ بنظر الاعتبار خصوصية اللغة ذاتها، دون ان يعني ذلك التوقف عند معطيات العروض الخليلي والاوزان العربية الكمية، او التوقف حتى عند انجازات الحداثة الشعرية في الخمسينيات والستينيات . فمن حق الشاعر ان يجرب او يبحث عن بنى ايقاعية جديدة وقد يتخلى هذا الشاعر عن نظام التفعيلة عن طريق العودة الى الوحدات الايقاعية الصغرى لهذه التفعيلة المتمثلة في الاسباب والاوتار والفواصل، وقد يجرب مرة اخرى الافادة من نظام النبر والتنغيم والوقف والتمفصل، وقد يجرب في اطار القصيدة المدورة، والبحور المختلطة . (لكن غدا عندما يداهمك الشيب ليطوق جيدك مثلما يحل الخريف بلونه الاصفر عندها تطلقين الزفرات الحرى تحسرا على قلوب ضيعتها عبثا قلوب كانت نابضة بالشباب قلوب من اغرموا بك حد التفاني) . ان الشاعر(عبد الله كوران) كما نلاحظ، ينقل الحياة اليومية، وايقاع النثر اليومي الى جسد قصيدة النثر ويؤنسن الاشياء البسيطة ويصنع من لغة الحياة اليومية شعرا يعتمد الاستعارة الغريبة ويقيم علاقات صادمة بين الالفاظ . ففي قصيدة(اجراس الفجر) التي نقلها الى العربية السيد(شاهو عبد الله) نجد ان الشاعر يراقص احزانه بعذوبة حيث يقول: (انين يتواصل من مكمن الغموض كلما يتصاعد الرنين استمع الى هجس للاصغاء لم ارتو بكلتا اذني همسة اغنية صوت لحن شكوى انفاس اه.. اخ ما يقال مالمرام لست بفاهم..) . ان بناء هذه القصيدة هو البساطة بعينها، لكن المضامين وراء هذه التعابير البسيطة والمقتضبة تخلق عالما كاملا من العلاقات التي تؤلف مهاد القصيدة، ان عناصر التوازى والتكرار هنا متميزة تماما . لكن طول العبارات المتغير يحول دون الانتظام الايقاعي ويقرب القصيدة من ايقاع المحادثة وقد افلح بعض الشعراء بمزج مقاطع من الشعر وشعر النثر في بنية واحدة . (ولكن كالدوامة تشاطر روحي بكاءايها الروح لم هذا السموق بلا تخوم بلا مكانة الى متى ابقى بدون معرفتك ؟ ما هذا الصوت واللحن البعيد؟) .
بين الشعر وقصيدة النثـر..عند (عبد اللـه كوران)
نشر في: 23 يونيو, 2010: 04:32 م