اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: لاأحد يذهبُ إلى الحرب باسماً

قناديل: لاأحد يذهبُ إلى الحرب باسماً

نشر في: 27 فبراير, 2022: 11:19 م

 لطفية الدليمي

وأنا أرى مشاهد قصيرة من الحرب الروسية – الأوكرانية جال ببالي دراسة سويدية قرأتها قبل سنوات عدّة، رأى واضعوها أنّ المرء يحتاجُ ثلاث عشرة سنة لكي يتعافى عقلياً ونفسياً من كلّ سنة قضاها في الحرب. سنكتشفُ بعملية حسابية سريعة أنّ من قضى عشر سنوات في حرب طاحنة (وماأكثرهم في العراق) يحتاج 130 سنة للتعافي؛

أي يجبُ أن يستعير حياة إضافية لأن حياته ستكون مبتورة ولن تصلح لحياة سوية. كم قاسيةٌ هي الحروب التي تبتلعُ البشر، ومن لم تبتلعه في لجة مظلمة تتركه كائناً معطوباً لايقوى على الاستمتاع بحياة هانئة.

أتذكّرُ مشهداً تمثيلياً عُرِض في ثمانينات القرن الماضي أيام الحرب مع إيران: إندفع شاب يافع راكضاً نحو أمه وهو يلهثُ فَرِحاً وإماراتُ السعادة (المصطنعة بالطبع) ترتسمُ على وجهه. نادى: هلهلي يمّة !!؛ سألته أمه: لماذا؟ أجابها: إحزري؛ فقالت: ربحتَ جائزة اليانصيب. قال: لا، شيء أكبر بكثير؟ قالت الأم: عثرتَ على مبلغ كبير في الشارع؛ فأجابها:لا، قلتُ لك شيء كبير جداً. قالت له: أخبرني ولاتتعبني أكثر. أجابها: لقد دعوا مواليدي إلى الخدمة العسكرية !! فزغردت الأم بأعلى صوتها !!!

كم كان هذا المشهد بائساً! لم يكتفِ صانعوه بأن يوظّفوا الخطاب التعبوي بهذا الاسلوب الفج؛ لكنهم تحايلوا على واقع الحال والطبيعة البشرية. هل رأيتَ يوماً ما رجلاً يُساقُ إلى الحرب بوجه يبتسم؟ تلك إستحالة كونية. الأمرُ لايختصُّ بنوعٍ بشري دون سواه، أو بحرب دون سواها. لاعلاقة للأمر بكون الحرب عادلة أم غير عادلة من وجهة نظر القانون الدولي أو وجهة نظر مشعليها؛ بل للأمر علاقة بالهاجس البشري الداخلي لشاب يساقُ إلى حرب لم يشأ أن يكون طرفاً فيها بأي شكل من الأشكال.

الحربُ هي الشكل الحديث لبقايا الحتميات الصراعية التي وجد فيها الانسان ذاته يتصارعُ مع أنواعٍ بيولوجية أخرى (بشر أم سواهم) للحفاظ على وجوده البيولوجي. هل يمكنُ نفي وجود الحقيقة الصراعية من حياتنا؟ أبداً المضادات الحيوية هي نتاجُ صراعنا مع البكتيريا الممرضة، ووسائل التدفئة والتبريد هي نتاجُ صراعنا مع الطبيعة القاسية،،، وثمة منتجات كثيرة هي نتائجُ صراعية مع كائن بيولوجي أو كينونة طبيعية أو أفكار أو سياسات،،، إلخ. الصراع حقيقة وجودية قد تخفى أشكالها المتعددة علينا. أليس نهوضك في الصباح ومغادرة دفء فراشك والمضي لعملك أو مدرستك عملاً صراعياً مع رغبتك الطبيعية في التكاسل؟

لنتفقْ إذن أنّ الصراع حقيقة لايمكن تجاهلها في هذه الحياة، وأنّ بعض أشكال الصراع تقودُ إلى إرتقاء الحياة البشرية على المستويين الفردي والجمعي، وأنّ بعض أشكال الصراع غير مرئية ولامحسوسة، وبعضها الآخر مرئي ونتائجه محسوسة، وقمّة تلك الصراعات هي صراعُ النوع البشري مع نظيره، وأحسبها تمثلُ رأس هرم المأساة البشرية في كلّ العصور والأزمان.

تتناولُ مراسلات فرويد – آينشتاين بشأن موضوعة الحرب حفراً فلسفياً في مسببات الحرب وجذورها الصراعية الطبيعية. مامِن دولة أنشئت في هذا العالم إلا وكان الجيش الوطني ذو القوة الضاربة ركناً مكيناً من أركانها، ونعرفُ أنّ الغالبية العظمى من البشر يعترفون بأنّ تنظيم الجيش وتشريع قوانين الخدمة الالزامية فيه إنما تنبعُ من اعتراف صريح بوراثة القوانين الصراعية البدائية التي تسعى لتكريس حالة التفوق على الآخرين وسحقهم والاستئثار بمغانم وطيبات هذه الحياة من مصادر ثروات طبيعية، كلُّ هذا يجري تحت لافتة عريضة تُحشَرُ فيها كلُّ الأورام القومية ونزوعات العظمة والمجد التليد.

ربّما خفّفت التقنيات المتطوّرة من أعداد الضحايا والأجساد المشوّهة (هذا إذا لم تستخدم على نطاق واسع أو كأسلحة تدمير شامل)؛ لكن حتى هذه التقنيات المتطوّرة يراها بعضُ مؤرخي التقنية نتاجاً لمتطلبات الردع والتحضير لحروب مستقبلية متوقّعة.

شاع في الغرب منذ عقود بعيدة مفهوم مناهضي الحرب Pacifists؛ لكن علينا أن لانخدع أنفسنا. لم يكن هؤلاء موضع ترحيب من قبل الحكومات أبداً. هل ننسى برتراند رسل وكيف سيق إلى السجن مرتين لمناهضته الحرب؟ لاأريد الإسهاب في أمثلة عن علماء عظام تمّ تهميشهم في أمريكا لأنهم أبدوا طروحات مضادرة للحرب، وفي المقابل صعدت أنجم سواهم إلى السماء السابعة لأنهم عملوا على تطوير أسلحة جديدة (إدوراد تيلر والقنبلة الهيدروجينية مثالاً).

لاأحد يذهبُ إلى الحرب بوجه مبتسم؛ فتلك إستحالة وجودية قبل أن تكون كذبة يروّجها بعضُ صانعي البطولات القومية الزائفة، أو غيلانُ رأس المال المتوحّش، أو التوّاقون لخلق إمبراطوريات جديدة على أنقاض خرائط الترسيمات الجيوسياسية القديمة.

ربما لن نستطيع إبطال قوانين الصراع الحاد والمسلّح في أقلّ تقدير؛ لكن يمكنُ في كلّ الاحوال التبشيرُ بحياة زاخرة بسعادات صغيرة بعيدة عن حتميات الصراع التي تخلف أجساداً مشوهة وعقولاً معطوبة وأرواحاً متآكلة.

أن لاتذهب للحرب بوجه مبتسم: هذا أقلُّ ماتفعله روح بشرية تحتقر الحروب ومُشعليها المجانين، من ظهر منهم في المشهد ومن توارى في الكواليس الخلفية يديرُ خيوط لعبة القتل الشيطانية بدماء باردة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عدي باش

    الحرب ... هي أعظم مكروه أخترعه البشر (لودميلا أوليتسكايا - شاعرة روسية)

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram