د. جاسم الصفار
في الخامسة من صباح يوم 24 فبراير، بدأت عملية عسكرية خاصة على أراضي أوكرانيا، واختُصرت مهامها على نزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازية فيها. تم استعراض الأسباب التي دعت اليها بالتفصيل من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه صباح ذلك اليوم، مؤكدا على أن ما دعا روسيا الى اتخاذ قرار البدء بالعملية العسكرية هو الحاجة إلى حماية أمن الدولة الروسية وأمن مواطنيها، وكذلك لإنقاذ حياة مواطني جمهوريتي لوكانسك ودانيتسك والمواطنين الروس الذين يعيشون على أراضي الجمهوريتين.
تم تأكيد الضرورة الأخلاقية لهذه العملية انطلاقا من معاناة طالت قرابة ثماني سنوات من القصف الأحادي المستمر لجمهوريات دونباس التي أعلنت استقلالها عن أوكرانيا. الا أن السبب الأكثر أهمية، برأيي، يتجسد بالتهديد المتصاعد لأمن روسيا الاتحادية نتيجة العسكرة المستمرة لأوكرانيا، والتي دأبت دول الناتو لسنوات بتعزيزها وتحديثها عبر مدها بالأسلحة القتالية المتطورة.
تصاعد التهديد العسكري بلغ حدود خطيرة بإعلان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي عن خططه لاستعادة سمة أوكرانيا كدولة نووية، والتي تخلت عنها في عام 1994. علما بأن أوكرانيا مازالت تملك بنى تحتية كافية لإنتاج واستخدام السلاح النووي. وهكذا، فإن التهديد على حدود روسيا لم يكن يحمل طابعًا شكليا او محدودا، بل طابعًا وجوديًا.
أذكر القارئ بأن المعايير الرئيسية للمقترحات الروسية لتحقيق الأمن الجماعي في المنطقة والعالم، بمراعاة مصالح جميع الأطراف المعنية، قد رفضتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. وهذا يعني أن رد فعل روسيا، الذي يعتبره الكثيرون متأخرًا نوعًا ما، منطقي تمامًا.
أكدت القيادة العسكرية والسياسية الروسية، مرارًا وتكرارًا، أن ليس من بين أهداف العملية احتلال أي جزء من أوكرانيا أو بدء حرب شاملة مع الشعب الأوكراني. بل أنها عملية محدودة مشابهة، الى حد ما، لعملية فرض السلام على جورجيا في أغسطس 2008، مع بعض الفوارق المرتبطة بخصوصيات هذه العملية.
في الساعة الخامسة صباحًا، وجهت القوات الجوية الروسية، بالإضافة إلى أنواع أخرى من القوات، ضربة قوية للنظام العسكري لأوكرانيا بأكمله. دمرت الضربة الأولى تقريبًا جميع أنظمة الدفاع الجوي الثابتة والمستودعات ومراكز القيادة التابعة للقوات المسلحة الأوكرانية، فضلاً عن القواعد العسكرية على سواحل البحر الأسود وبحر آزوف. بشكل منفصل، تجدر الإشارة إلى تدمير مركز المعلومات العسكرية 72 الموجود في كييف، وكذلك قاعدة أوجاكوف البحرية المجهزة بإشراف بريطانيا.
في الوقت نفسه، هاجمت الوحدات القتالية من جمهورية لوكانيسك ودانيتسك وحدات كبيرة من القوات المسلحة الأوكرانية في منطقة فولنوفاخا في اراضي جمهوية دانيتسك، وفي منطقة شاستيا في جمهورية لوكانيسك وحققت نجاحًا ملحوظًا.
بعد حوالي ساعة، عبرت الوحدات البرية التابعة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي حدود أوكرانيا من بيلاروسيا ومناطق فورونيج وبلغورود، وكذلك من شبه جزيرة القرم، وبعد ذلك اندفعت نحو وسط أوكرانيا في اتجاهات متقاربة.
في الواقع، تم الانتهاء من الجزء الرئيسي من المهام العسكرية لتدمير البنية التحتية العسكرية الأوكرانية بالفعل في الساعات الأولى من العملية الخاصة.
يمكن وصف مقاومة الجانب الأوكراني بأنها “مشتتة”، فبعض الوحدات الأوكرانية استسلمت دون قتال، والبعض الآخر، غالبا من المتطوعين اليمينيين، أبدى بعض المقاومة.
في الوقت الحالي، عند كتابة هذه المقالة، تتحرك وحدات القوات المسلحة الروسية نحو الخط الاستراتيجي لنهر دنيبر للسيطرة على الجسور وتنفيذ مهام عسكرية أخرى مخطط لها.
من جهة أخرى، أعلنت القيادة العسكرية والسياسية الأوكرانية عن تعبئة عامة، مما يعني استمرار المقاومة، على الرغم من عدم وضوح افاقها ومدى جدواها.
بناءً على الأهداف المعلنة مباشرة للعملية، يبدو أن القوات المسلحة الأوكرانية ستتعرض لضربات موجعة إلى الحد الذي سيفقد بعده الجيش الأوكراني القدرة على تهديد روسيا لفترة طويلة. وكما أشار ديمتري بيسكوف، السكرتير الصحفي للرئيس الروسي، فإن “تجريد أوكرانيا من السلاح” يعني تحييد الإمكانات العسكرية، التي نمت مؤخرًا بشكل كبير بسبب النشاط المتنامي للدول الأجنبية.
صاغ الرئيس بوتين رؤيته لما ينتظر من أوكرانيا من أجل حل مشاكل” الخطوط الحمر “ المبدئية، هو تبني قرار دستوري يجعل من أوكرانيا دولة محايدة، لا تدخل في أي أحلاف معادية لروسيا، ولا تساهم في زعزعة استقرار المنطقة. وهذا يعتمد على رغبة النخبة السياسية الحاكمة في أوكرانيا على تبني مثل تلك المواقف. ويبدو أن هزائم الجيش الاوكراني وخيبة الامل من الحلفاء الغربيين فرضت أخيرا على القيادة الأوكرانية الموافقة على شرط روسيا بتبني سياسة الحياد.
العملية الخاصة نفسها، في جزئها العسكري، لن تدوم طويلا. الا أن التغييرات الاجتماعية والسياسية لاجتثاث النازية، سوف تتطلب مزيدًا من الوقت، ولا يزال من الصعب وصف الخطوط العريضة للنظام السياسي لـ “أوكرانيا الجديدة”. خاصة وأن ديمتري بيسكوف، كان قد أكد بأن الهدف السياسي الرئيسي للعملية لا يزال هو اجتثاث النازية في أوكرانيا. وقد يتضمن ذلك إنزال العقاب بالنازيين الجدد الأوكرانيين، المتورطين شخصيًا في العديد من الجرائم ضد السكان الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا.
روسيا مصممة على ألا يكون هناك متسع سياسي لتفشي وازدهار النازية في أوكرانيا. وهي مستعدة، على ما يبدو، لاستخدام أي وسيلة لضمان هذه النتيجة. هذا رغم أن تاريخ النازية في أوكرانيا يؤكد أنها صمدت في المناطق التي جرى اقتطاعها من بولونيا بعد الحرب العالمية الثانية، كمدينة لفوف، طيلة الحقبة التي تلت الحرب رغما عن الأيديولوجيا البلشفية التي كانت سائدة في تلك الحقبة وصرامة النظام السياسي السوفيتي وقتها.
وأخيرا، لابد من التأكيد على أن اجتثاث أفكار النازية وسياستها في المناطق التي ترسخت فيها غرب أوكرانيا، مهمة غاية في الصعوبة وتحتاج الى نشاط مبرمج ومتسع من الوقت. 30 عامًا من الخضوع للأعلام الغربي المعادي للروس بعد استقلال اوكرانيا و8 أعوام من الدعاية النشطة ضد روسيا بإدارة نازية محلية مدعومة من الغرب أدت إلى غسل دماغ اجيال من الأوكرانيين.