حيدر المحسن
لا أحسب أن قارئا يهوى كتابا شعريا يشبه في ضخامته دليل هاتف العاصمة بغداد في السبعينات أو في الثمانينات، وهذا أيضا لم تكن له فائدة عملية، فالجميع كانوا يحفظون الأرقام التي تهمّهم في مفكّرة تُباع في محال الورّاقين، ومرسوم على غلافها صورة الهاتف القديم، وصاحب فكرة الدليل الجامع لكلّ أرقام الهواتف لم يكن يفكّر في أمر، غير المباهاة...
تغرز سيّارة الزوج والزوجة في الأرض في رواية اللصوص لوليام فولكنر، وكان الوحل من عمل زنجيّ أوقف شاحنته في مكان قريب، كي يقوم بسحب العجلات ويتقاضى عليه أجره. المكان بعيد عن المدينة، ويشبه صحراء، كما أن النهار يوشك أن ينقضي. وتسأل المرأة زوجها، قبل أن يتوجّه إلى الزنجي طالبا المساعدة:
«لكننا نحمل في صندوق السيارة أدوات تفيدنا للتخلّص من هذه الورطة». ويجيبها الزوج:
«لم تُصنع هذه الأدوات لغرض الاستفادة منها، إنما للمباهاة!”.
لا أريد القول إن طبع الأعمال الشعرية الكاملة في مجلّد من مئات الصفحات ليس فيه فائدة غير المباهاة، لكنّني أستطيع أن أجازف في ما يخصّ الأمر ببعض الحدس. وهكذا نرى أن مكان هذه المعاجم الشعرية في المكتبات هو للزينة فقط، وغرضها التباهي من قبل القائمين على الأمر، ولا وجود لزنجيّ يساعدنا في سبيل الخروج من هذه «الوحلة».
لم ألتقِ بالشّاعر سعدي يوسف، ولم أتحدّث معه عبر الهاتف، رغم تيسّر هذا الأمر، وكان الرسول بيننا الصديق سامي أحمد، مدير دار التكوين، فهو الذي بعث إلى مقام الشاعر في لندن كتابي الأول، “خطوة الذئب”، وكتب سعدي له تلك المقدّمة، وكان ذلك في عام 2016. وعندما بدأت قصة الجائحة، عرضت عليه المساعدة، وكان الجواب هو شكره، ولا شيء غير الشكر...
المرة الثالثة التي جمعتنا كانت فكرة إصدار طبعات جديدة لدواوين الشاعر، منفصلة، وبحلّة واحدة، وكنت أريد لحروفه أن تظهر مثل كلمات القدّيس محمود درويش، في كتب صغيرة يشتهي تناولها حتى أولئك الذين يمتلكون الحدّ الأدنى من إبداعيّة التلقّي. ولم أتلقّ ردّا من الشاعر، وربما حالت ظروف مرضه عن التفكير جديّا في الأمر.
يمكننا تعريف الشّعر اختصارا بأنه الكلام الأقلّ، وكتابه بالتالي يكون هو الأصغر حجما، والألطف شكلا. القصائد العظيمة ما هي إلّا أحاجٍ وتعاويذُ نريد أن تكون معنا طوال الوقت، وكنت أعمل هذا دائما مع كتابي المفضّل، أحمله في جيبي ليكون قريبا أكثر ما يمكن من جلدي وأنفاسي ودمي. يُذكر عن الإسكندر المقدوني أنه كان يضع سيفا وإلياذة هوميروس تحت الوسادة كي يبلغ بسلام شاطئ النوم. السيف ضدّ الأعداء، والشّعر ضدّ الرّثاثة والتفاهة والتكاسل والجُبن...
يجمع الشاعر قصائده التي أُلهمَ بها في حقبة من الزمن، ويصدرها في ديوان له اسم، ورسم، ووجود كلّيّ يختلف عمّا سوف يأتيه به الوحي بعد سنين. كما أن كل قصيدة هي نسيج كلمات وصور ومعانٍ، وليست مجرد توالٍ للكلمات، فإذا جمعناها بين دفتّيْ كتاب واحد ربما جرى تناضح بين الحروف والأفكار والمشاعر، وبين المساحة الموسيقية المستعملة في القصائد، والتي اختلفت حتما عبر مسيرة الشاعر.
يقول غوستاف فلوبير: «القراءة تحركني أكثر من أيّ مصيبة حقيقية» وهي فعلا كذلك، عندما تكون محمّلة بجميع الحرائق والجنّات التي تكتنف التجربة الأدبية، ولنا أن نتصوّر حجم الكارثة التي سوف تحلّ بمن يقدم على كشفها كلّها، من الألف إلى الياء.
لديّ ملاحظة بشأن وضع صورة أديب شهير على الصفحة الأولى من مطبوعات اتّحاد الأدباء في العراق، وهي تشبه ما يقوم به السلاطين في الماضي عندما كانوا يدمغون أشكالهم فوق وجه الدينار كي يكون قابلا للتداول. ويحدث في عالم السياسة أن يقوم ملك جديد بانقلاب على السلطان القديم، فيمحو صورته ويحتل مكانه، ولا يتخيّل أحدٌ يوما يجري فيه الأمر نفسه في عالم الأدب.
سؤال: إذا كانت صورة الأديب تشغل وجه الدينار، فما هو وجه الدينار الآخر؟