أعترف بأني تعلمت من أزمة البطاقة التموينية جملة من الدروس؛ الدرس الأول هو أن حكومتنا الموقرة لديها الشجاعة غير المحدودة في اتخاذ قرارات ارتجالية من دون أي دراسة أو تخطيط مسبق؛ والثاني هو حجم الانفصال بين الوزراء والكيانات السياسية التي أنتجتهم؛ والثالث هو عدم قدرة الحكومة على مواجهة رد فعل الجمهور وأن الأخير يمتلك القدرة على تحجيم حرية صانع القرار "المطلقة" و "الدستورية" متى ما أراد ذلك؛ وأخيرا أن قرارات مجلس الوزراء المعلنة والمنشورة على موقع رئاسة الوزراء والناطق الرسمي باسمها هي متن قابل للزيادة والنقصان والتأويل المفرط من دون أي ضابط، ودليلنا على هذا حجم الاختلاف بين نص القرار والتأويلات الخاصة به.
بالعودة إلى البطاقة التموينية، كنت ممن طالب بإعادة النظر في مسألة البطاقة التموينية في العام 2009، وقلت حينها أنه لا بد من إعادة تقييم الدعم الموجه للبطاقة التموينية ضمن الميزانية الاتحادية. فالبطاقة التموينية نظام تم العمل به في العام 1990 كإجراء مؤقت لمواجهة العقوبات الدولية التي فرضت على العراق حينها. وهي كأي برنامج إغاثي لم يوجه إلى فئة دون أخرى، وإنما شمل جميع السكان بمن فيهم غير العراقيين بمعزل عن وضعهم الاقتصادي أو المعيشي. وكان يفترض إنهاء هذا البرنامج بزوال الأسباب التي أدت له، أي عند رفع العقوبات الاقتصادية والعودة إلى الحالة الطبيعية، ولكن ظروف الاحتلال، والاختلال الاقتصادي والاجتماعي الذي أنتجته مدة العقوبات الطويلة دفعت إلى الإبقاء على هذا البرنامج مما يؤشر فشلا ذريعا في العودة إلى دورة الحياة الطبيعية، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، بل وجدنا تقارير رسمية تربط بين استمرار نظام العمل بالبطاقة التموينية بالأمن الغذائي للفئات الهشة والفقيرة.
لقد التفت قرار استبدال البطاقة التموينية بالبدل النقدي إلى الجانب الإداري واللوجستي حصرا، وبتسويغات غير منطقية، ولم يلتفت إلى النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تنتج عنه. أي أنه لم تتم عمليا مقاربة هذه المسألة في إطارها الاستراتيجي المفترض، وهذا كان السبب الرئيس في عجز الحكومة عن تسويغ قرارها.
فعلى الرغم من وجود نظام البطاقة التموينية، سجلت الأسواق المحلية ارتفاعا كبيرا في أسعار المواد الغذائية نتيجة لارتفاع أسعار المواد الغذائية عالميا، وارتفاع أسعار النقل عالميا ومحليا، وفي ظل عجز الإنتاج المحلي عن سد حاجة السوق. وقد تراوحت هذه الزيادة بين 5 و 6% تبعا لأرقام الجهاز المركزي للإحصاء. أما معدلات التضخم Inflation الشهرية فقد ظلت في تصاعد مستمر، ووفق آخر أرقام أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء بلغ الرقم القياسي لأسعار المستهلك لشهر أيلول 2012 في العراق (142.3%) ،مسجلا ارتفاعا بلغ معدله (0.3%) عن الشهر الماضي، ومسجلا ارتفاعا بلغ معدله (6.4%) عن شهر أيلول 2011 الذي بلغ (133.8%)، ومسجلا ارتفاعا بلغ (42.3%) عن شهر أيلول 2007.
إن هذه الأرقام تعني عمليا أن أي محاولة لضخ ترليونات الدنانير عبر التعويض النقدي للبطاقة التموينية ستؤدي إلى مضاعفة التضخم بشكل تصعب السيطرة عليه، مع ما ينتج عنه من ارتفاع في الأسعار وهبوط محتمل في قيمة العملة، ومن ثم تأثر القطاعات الهشة والأكثر فقرا بشكل كبير. خاصة وأن مجموعة المواد الغذائية تحتل نسبة 28.7% من حجم إنفاق العائلة العراقية. خاصة وأن الحكومة العراقية لا تمتلك أية قدرة على السيطرة على عمليات العرض والطلب التي يمكن أن تنتج عن قرار إلغاء البطاقة التموينية، أو السيطرة على غلاء الأسعار.
اجتماعيا يصل عدد المستفيدين من البطاقة التموينية أكثر من 30 مليون نسمة بحسب أرقام وزارة التجارة، وقد وصفت وزارة التخطيط هذه البطاقة في أكثر من تقرير لها بأنها تمثل الضمان الأكبر لتحقيق الأمن الغذائي للطبقة الفقيرة. ففي التحليل الشامل للأمن الغذائي والفئات الهشة في العراق،وزارة التخطيط والتعاون الدولي2008 (برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة) عدت الوزارة نظام البطاقة التموينية " عنصرا أساسيا في شبكة الحماية للسكان الأكثر هشاشة في العراق ..."، وقد قدر التقرير عدد السكان غير الآمنين غذائيا بـ 930000 نسمة، كما أظهرت نتائج المسح أن 9.4% من السكان يعتمدون بشكل كبير على نظام البطاقة التموينية، وبخلافه سيتحولون إلى سكان غير آمنين غذائيا. إلى جانب ما نسبته 12.3% من الشرائح التي تقع في فئة أفقر 20% من السكان (تحت خط الفقر) ستكون غير آمنة غذائيا إذا أوقف العمل بنظام البطاقة التموينية. وقد سبق أن قامت وزارة التجارة في تشرين الثاني 2011 بحجب البطاقة التموينية عن 322.745 أسرة يعيلها موظفون تزيد رواتبهم الشهرية عن مليون ونصف المليون دينار. وهو إجراء أقل ما يمكن أن يوصف به أنه إجراء تمييزي، لأنه أغفل فئات اجتماعية كثيرة يفوق دخلها الشهري مبلغ المليون ونصف المليون دينار ،ولكنها استمرت في تسلم البطاقة التموينية! وكان يفترض بالحكومة الاعتماد على تقديرات الدخل الشهري للأسر العراقية جميعا، ومن ثم إيجاد آلية عادلة لحجب البطاقة التموينية عن جميع من يزيد دخلهم على المليون ونصف المليون دينار، حينها ربما كنا في غنى عن الوصول إلى قرار مجلس الوزراء وإلى هذه الجلسة في مجلس النواب.
لقد حدد قرار مجلس الوزراء في جلسته رقم 48 في 11/6/ 2012 "استبدال البطاقة التموينية المطبقة حاليا بمبالغ نقدية توزع على المشمولين بالنظام المذكور بواقع (15) ألف دينار لكل فرد"، ثم كنا أمام تصريح لوزير التجارة يسوغ هذا المبلغ بالقول إن تكلفة حصة الفرد هي 12 ألف دينار وإن مجلس الوزراء رفع المبلغ إلى 15 ألفا. علما بأن بيان لوزارة التجارة صدر في 29/11/2011 كان قد تحدث عن أن الكلفة الاستيرادية للفرد الأحد بالبطاقة التموينية تبلغ 19 ألفا و728 دينارا، وأن كلفة حليب الأطفال ضمن البطاقة تبلغ 14 ألفا و307 دنانير . ومن ثم فان تأمين حصة الفرد الواحد بأسعار السوق المحلية مضافا لها نسبة التضخم السنوي التي وصلت إلى أكثر من 6% تبعا لأرقام الجهاز المركزي للإحصاء وتكنولوجيا المعلومات ستتجاوز هذه الأرقام بكثير، وهذا يعني أن مبلغ 15 ألف دينار الذي أعلن في قرار مجلس الوزراء كان رقما اعتباطيا ولم يكن مبنيا على تقديرات حقيقية. كما أعلن وزير التجارة بعيد قرار مجلس الوزراء بإلغاء البطاقة التموينية أن وزارته "تملك احتياطات جيدة وخططاً مدروسة لدعم السوق العراقي وفق خطوات علمية وعملية تضمن لنا الحد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية داخل السوق المحلية"، وأضاف أن "لجنة مختصة شكلت من قبل مجلس الوزراء تضم وزارت التخطيط والمالية والتجارة وضعت هذه اللجنة آلية لمنع ارتفاع أسعار المواد الغذائية" من دون أن يقول لنا لماذا لم تعمد الوزارة إلى القيام بالشيء نفسه طوال المدة الماضية التي ارتفعت فيها الأسعار بين عامي 2006 و2012 فقط إلى ما يزيد على 50% ما دامت تمتلك هكذا إمكانية !
لقد تراجع مجلس الوزراء عن قراره الارتجالي بعد أيام قليلة، ومن ثم لم يعد سؤال البطاقة التموينية مطروحا إلى حين، ولكن السؤال الأهم الذي لم يسأل هو عن أداء مجلس الوزراء وآليات صناعة القرار فيه. فما الذي يضمن لنا بأن هذه الارتجالية لم تكن حاضرة في قرارات أخرى؟