TOP

جريدة المدى > عام > زورق جان دمو

زورق جان دمو

نشر في: 5 مارس, 2022: 11:32 م

ناجح المعموري

كما لو اننا نولد للتوّ هي مكونة من منطويات الخاصة لعنونة والمعبرة عنها، والتي تومئ لخسارات وانحدارات طويلة

وكأن الماضي كله عبارة عن انهيارات ذاتية وانخذال وكشف سيرته كثيرة وعرف اوجاعاً وانكسارات، لكنه في لحظة غير موفقه، حاصرته الصحوة وعرف بانه مخلوق جديد. وغادر كل ما عرفته ماضيات ايامه وسنواته. لذا يزاول حياة غير مألوفة، لا شيء فيها مما عرفه قبلاً.

والحماسي قال هذا العنوان، ليس بوصفه ذاتاً واحدة، بل باعتباره "نحن" الجماعة لدوركهايم من اجل ارضاء الافراد الذين عاشوا مطرودين وممحوين. التعرف الجديد فتقطع الصلة مع الماضي، مما جعل الكائن مهووساً ومندهشاً بكل ما رآه. ولم يكن متحمساً العنوان لمزاولة ما عرفه القاص من متع وخسارات وبهجات هادئة وفرح. يضفي العنوان "كما لو اننا نولد للتو " قيماً وافكاراً جديدة لكائن اخذته الصحوة نحو جديد، يمنح ما لم يفكر به الفرد، حتى ينسى فشله المتكرر، لان كل ممارساته قبل مقترحاته هي فتأل انطفاء وعتبات موت.

تثير هذه المجموعة اسئلة كثيرة ارتباطاً مع المقدمة التي كتبها "ماريا ريلكة " وترجمها الشاعر سركون بولص، محافظاً على اللغة الشفيفة والتي تكرست درساً لشاعر كبير مثل "ريلكة " التي كانت وظلت مكرسة قانوناً ابداعياً تعامل معه الادباء بتنوعاتهم الكثيرة ولابد من اشارة الى الشهادة التي قدمها كاظم الحماسي، محاولاً بها تجاوز شهادة "ريلكة " قليلاً، لانه يريد الاشارة لشهادته التي رسمت حدود تجربته القصصية. ووجدت بين (ريلكة) والحماسي تشاكلاً على الرغم من تحقق بعض الخلخلات، لان ما رآه الحماسي مختلف عن "ريلكة " اليومي العراقي، انكساراته، تفكك حضورات بسيطة، تحفز بالقوة الكامنة فيها.

الخلاص بعيد او الانقاذ مستحيل، وتتعقد الثنائية لكن الجوهري المثير المضاف على شهادة الشاعر " ريلكة " هو ما ترجمه الشاعر سركون بولص الذي وجد فيها روحاً عميقة لشاعر وظف ما اراد التقاطه مع معرفة سركون الى ان " ريلكة " معروف له وتعلم منه من خلال وصاياه وتمظهرات تجاربه، من هنا لاذ الحماسي نحو تجربة كرستها الفلسفة " ريلكة " وقد حاز حضوراً نيتشيا بالصداقة معه. وكان تبديات العقل والمعاينة الموضوعية. لكن الحماسي خضع لاغواءات ما موجود من اشياء. وفي الشعر الاستجابات مغايرة، لانه قادر على تحويل المشاهد عيانياً الى طاقة رمزية والتخيّل يعزز ما يريد الشاعر، ونجح القاص كاظم الحماسي في اعادة ترتيب السرد من الحكي الى المجاز السهل والعميق، بحيث تجاورت ثنائيات المجاز والرمز. واستطاع تقديم المثير الذي انعكس في مرآة الذاكرة الملتقطة ما يحلم به المبدع. وتمظهرت قصة الزورق بطاقة سردية لاحقت اليومي المخلخل والمفكك وتسيد الشاعر جان دمو في قصة الزورق، ووظف القليل جداً من شهادة ريلكة ولانه شاعر يمتلك الصورة ويبتكرها لحظة ما اراد امسك ريشة ورسم ضفة ثانية للضفة الاولى وكان الزورق المرسوم بعيداً.

" على حين غرة، التفت اليّ جان فالقاني مأخوذاً، اطيل التحديق في المشهدية الوحشية المرعبة التي خلفتها ريشة على القماش، صاح بيّ: ها.... اجبته مستفهماً. ها ؟ اشار بسبابته الى البانوراما: هذه ضفة...، وهو يرفع ذراعه الى الامام باستقامة نظره، ويضيف وتلك ضفة.

.... وكيف الصورة ؟

ما لبث ان مد ذراعه في عبه، ليخرج قنينة عرق ملائ، ثم ليرفعها عالياً ويهتف مقهقهاً:

هذا هو الزورق / ص10كما لو اننا ولدنا للتو منشورات اتحاد الادباء.

جان دمو، شاعر صعلوك لديه احلام ضاجة بالاختلاف والقبول يحلم بحياة لم يفكر بها شاعر عاقل ولا مخبول، رسم بريشته بحراً وفي الضفة الثانية زورق بعيد، هو الوسيلة الانقاذية، جان دمو يريد منفذاً مثل كل واحد منا، واختاراً حلماً شعرياً، زورقه الصغير او الكبير، والحماسي عارف بأن الكائن لن يحوز كينونته بدون حلم، لان الانسان يتعطل، لان الذهاب نحو الجديد غير المعروف، هو الذي يجعل من المعيش مستجيباً لسيرورة باستمرار.

قصة الزورق " القصيرة جداً التي وجدتها كثيرة التركيز والاختزال تقطر ماءاً تحمله حتى نشفت، لانها وسط فضاء مائي شفاف، اختزل كثيراً، حيث السماء في الضفة الثانية، تكرس وسائد ذات الوان وردية واراجيح واسرة فارهة من نتف غيوم بيض، وتملأ فراغاتها بالونات زرق بهيجة الهيئة. هذا الشعر واضح بامتلاء الوحدة السردية، بفيض الاحلام الضاج في اعماق جان دمو وهو التحقق ببراعة الحماسي، لانه التقط من مقدسات ريلكة ولم يجد غير جان دمو ليجعله صورة مرآته، بعد ان فحص الشهادة التي اضفى عليها سركون بولص روحاً ليست كما يعتقد وكأنه ولد للتو. هذا حقيقي لان الحماسي منحه شهادة.

ولادة ستبقى تاريخاً طويلاً في خزان الذاكرات. ولذلك جعلته حياً، مبتهجاً، سعيداً، لان السماء في الضفة الثانية من النهر تهيء له ما يحتاجه الملوك والملكات والاميرات وايضا ما يحتاجه الالهة الاولى، وهي تدخل حياة عالم جديد لم يعرفه جان دمو من قبل. ولذا غامر لاول مرة في حياته، مجازفة لم يألفها، لانه مرتكب الاخطاء دائماً وذاكرته تعطيه ما يريد من تخيلات فقط. هي التي توقظ فيه ما يجعله ثرثاراً، لكنه آنذاك في " الزورق " غامر مع الوانه المثيرة، ويسرع بتخطيط بانوراما مزدحم عن الذين عرفهم جان دمو وعاش معهم، حتى تحولت البانوراما الى تراجيديا، وهي هكذا دائماً، هو الحي الميت الذي استيقظ على ورقة الحماسي والتقط " وجوه نضرة لأولاد وصبايا وشيوخ وعجائز، ثم تجري في اخاديد غائرة في صفحات وجوههم الذابلة، محتشدين اسفل القماشة / ص9//

ايقونولوجيات " للتاريخ الحيّ المعطل عن وظائفه، وفي اسفل البانوراميا مغاير بالاختلاف، الموت، موت فقط، توابيت وعلامات قاتلة، معطلة اشتعلت بها النيران وفاحت رائحة دخان الاحتراق، واستغرب جان دمو وهو يرى الراوي مستغرباً لا يعرف كيفية الوصول للضفة الاخرى.

كان جواب جان دمو جاهزاً، وحاضراً، يعرفه جيداً ولا غيره من خلاص ومنقذ. لان الحياة تعطلت بالكامل. وصار الكائن ممحواً وراضياً بذلك وعلى الجميع المغادرة من مكان الى ضفة اخرى، والزورق الحامل لمن يرغب بالمغادرة، هو قنينة عرق فقط، هي الخلاص وهذا هو الخراب الذي ذهب اليه جان دمو، ولم يستطع الافلات ولم تتمكن جماعته من الافلات والهروب نحو حلم كان وظل غير متحقق .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram