حيدر المحسن
قد تذكِّرُكَ البَعُوضةُ بالحياةِ!
فجرِّبِ الآن الحياةَ لكي تُدَرِّبكَ الحياةُ
على الحياةِ
ـ محمود درويش ـ
تدخلُ بيتَ الجواميس، وكلَّ شيءٍ يصيرُ شيئاً آخر، أقوى وجوداً وأعمّ معنى...
لن أنسى أبداً ذلك النّهار، عندما كانت السّماءُ غائمةً، وفي الرّيح مطرٌ ناعم. بيتُ الجواميسِ مغلقٌ كالحصن، والخوارُ فيه لن ينتهي. وكنتُ أردتُ الخروجَ، وقد غلغلتْ في عظاميَ الرّهبةُ. دقيقةً، ثم أمرتُ قلبي بالتّريّث، وأرخيتُ ظلّي غير المرئيّ، وانتظرتُ. في ثوانٍ نجح الحيوان بتطويق روحي بشكل سحريّ، وأبعد عني الشعور بالوحدة. البيتُ فسيحٌ، والجاموس عديدٌ. سياجٌ دائريّ من الطّوب، والباب حديديّ يصرّ ببطء مع الرّيح. ثمّة صفصافةٌ وسدرةٌ وثلاثُ نخلاتٍ، وبإمكاني رؤية الكثير من النّخلِ في الفضاء الذي يعلو السّياج. لا يُخطئ أنفي شذا أزهارَ السّدرةِ، رغم كثرة الرّوائح في الزّريبة. ثم تحرّك الثّورُ، وسارَ باتّجاهي. أغلقتُ عينيّ. فتحتهما. الثّورُ ينظرُ إليّ، قريبٌ منّي. خارَ بصوتٍ عالٍ ورخيمٍ وشجيّ، وأحسستُ فجأة بطعمِ الرّملِ في فمي. نخر، وشدّتني إليه عينان تائهتان في الألوان: عسليّتان؟ قهويّتان؟ ضاربتان إلى الخضرة؟ سَكْلَمِيّتان؟ رماديّتان؟ درتُ حوله، وسكبت عليّ صفصافةٌ جفنةً من أوراقها الصّفراء اليابسة، ثم أزّت نحلةٌ بالقرب منّي، وذرق عصفور قَذَرَه قربي. طارت فراشةٌ، جناحاها يضربان الهواء برفق. أمسكتُ أنفاسي، حتى لا أعوقها عن التّحليق. اختفتْ.
أمرٌ طبيعيٌّ أنّ الثّور لا يأكل بالطّريقة نفسها التي يتغذّى بها الطّائرُ والفراشة. أكداس من العنجر في الفِناء، بالإضافة إلى أكوام الحشيش، وأجولة الجتّ، والأهراءُ ممتلئةٌ بالتّبن والسّحالة، مع تلالٍ البوّ في الخارج تنتظر دورها لتُؤكل. كان الجاموسُ يأكلُ ببطء، ويستمرّ في الأكل ولا يكفّ، نظرةُ عينيه تظلّ جائعة. بل إنّ الجاموس ينامُ وهو يجترّ في بطء. ثلاثُ ثوانٍ يحتاجها ليروح فكّه الأسفل إلى اليمين، ويعود إلى الشِّمال، كي يلوك الطّعام مرّةً واحدة، وبسبب هذا البطء تسير جميعُ الفكوك على وتيرة واحدة، ومنضبطة بالإيقاعِ ذاته، تقريباً. من جوعٍ إلى جوع، وجوعُ الجواميسِ لا يُشبع. نهمٌ يكدمُ في اللّيل وفي النّهار، في الصّحو وفي أثناء النّوم.
نخرت جاموسة، وكرّرت البقيّة النّخير، في أداء أشبه بإنشاد الجوقة. أغلقتُ عيني كي أدع الخوار يتخلّلني. شيئا فشيئا صرتُ آلفُ الجوّ، وتعرّفتُ، بواسطة الرّاعي ذي الوجهِ النّاحلِ والعينين الحزينتين، على اسم كلّ دابّة: سِعْدَة، هي أضخم جاموسةٍ في القطيعِ. وشعرتُ بأنني أعرفها، وأعرفها منذ زمن، أيَّ تفاصيلَ تكنزُ عيناها؟ نورٌ ناعمٌ كان يتخلّقُ في الظّلّ الرّماديّ الثّخين تسكبه النّخلات على الأرض. ثم انحنيتُ، ولمستُ الضّرعَ. التفتت سعدة إليّ، وافترّ ثغرُها عن ابتسامة حالمةٍ. أخذتني رغبة شديدةٌ بأن أحلبها. جرّبتُ، ونجحتُ. هزّتِ الجاموسةُ رأسَها إلى أسفل بسرعة، وأدارته يميناً وشمالاً، لتُبِينَ لي عن رضاها. رحتُ أحلبها ببطء، وأكلّمها بصوتٍ حنون. في تلك الوهلة لم تكن هناك دموع على وجهها، ولا في عينيّ. لا أعرف كم من الوقت مضى عليّ وأنا أصغي إلى اللبن يشخبُ في السّطلِ. دقائقَ، أم قروناً؟ رائحةُ الحليب أحضرت لي صورةَ من أُحبّ، وكنت أحلب، وأحلب، والخوار يجيءُ متمهّلاً، كأنّما يخرجُ من غور بئر. لا أدري، لمَ فكّرتُ في تلك اللحظة بالموت، «الموتُ الذي لا يغضبه شيءٌ سوى الحُبِّ”، كما يقول سان جان بيرس. الحليبُ في السّطل يسندني، يمنحني الشعور بالأمانَ والخصب. وتستمرّ الحياةُ هنا، في بيت الجواميس، هادئة، وكلّ شيء يساهمُ في السّحرِ: التّبن، الماء، الرّوث، وأشياء وحيوات لا أسماء لها ولا تعريف. تلك الدّقائقً هي أحلى هدايا السّعادة في حياتي، حتّى أنّني غفوتُ وأنا أحلبُ. كان سباتاً، وسناً، أو مثل كهف ينسى المرءُ فيه نفسه. أودّ لو أمكنني أن أذوب في سحابة غبار روث أثارها عِجلان تعاركا، وقذفت بالتّراب إلى فمي وإلى عينيّ وأنفي. الشّمسُ من وراء الغيم تغربُ، والبردُ يحلّ. بغتةً، مرقَ طيرٌ، وفزّزني. صاح بي:بيتُ الجواميسِ بيتُكَ، قد دخلتَهُ بقدمٍ سعدٍ، وستغادره بالخطوة الأسعد...