طالب عبد العزيز
ليس العيبُ في ما نضجر منه، حسب. العيب في ما نتأمله عن الضجر أيضاً. أمّا الحرب فهي اللعبة الوحيدة التي تبدأ بكلمة وتنتهي برصاصة. وهذا أنا كما ترى، كنت منهكاً ما فيه الكفاية أمس، حتى أنني لم استطع أنْ أتمدد في أغنية. أحدهم قال لي:” أنت شجنٌ قديم في جذع نخلة، مباهجك العصافير. لهذا نمتُّ، وقد ناهزت الريحُ زرقة السماء مرةً ثانية.
هو يقول بأنيَ أكتب مديحاً للفلاحين، اتلوهُ، فيصغي جدولٌ، وتنعم سفرجلةٌ بظلال كثيرة، لا، لست ورقة توت صغيرة لأنتهي في قلب آجرة على المسناة، يحررني المدُّ، وتعيدني الشمس. أنا خربشة مجنونٍ على طاولة في المقهى، قلت أزميلاً، وكتبتُ يداً، رسمتْ ضحكةً ومتّْ.
وقد وجدت فيمَ وجدت أنه، من فضائل السُّكر في البيت أنك قد ترتطمُ بالرأس العالي للسرير، لكنك ستهتدي الى وسادتك لا محال، وقد تبول في تبّانك، وربما صار البلل الى خصيتك، هذا لا يعني أنك غير قادر على غسلهما قبيل الفجر بساعة. وهبك نسيت صنبورَ الماء مفتوحاً، هناك من سيغلقه عنك، وليس في الامر ما تعيبه على نفسك، إذا ما اخطأت بجلستك في دورة المياه، وأفرغت ما لا أودُّ تسميته الآن في غير موضعه، تذكر بأنَّها تمشي الهوينا الأيامُ التي لن تستطيع الوصول فيها الى الكنيف. وأنَّ أحدهم سيأتي لك بالعصا، قدمك الثالثة.
حملتهم الطريقُ الطويلة الى هناك، صارت السماءُ دثارا لهم، ولم تعد الأشجار تظللهم بعد اليوم، لم يعد التذكر نافعاً، ولا الدمع مجزياً، فقد التحفوا رمل الارض الى الابد.. لا الكنى ولا الرتب يسمعون. حجرٌ فقير يظمأ تحت الشمس، تنام عند حروفه القططُ والكلاب، ذاك كلُّ ما يدلُّ عليهم.
في السهول التي لم تكُ سهولاً من قبل، وعلى قمم الجبال التي لم تطأها الريحُ بعد، وفي الأودية حيث ينمو الصمت خلف أجمة الدفلى غريباً، هناك، حيث لم يسمِّ أحدٌ الأشجارَ، فلا الجوزهو ذاك، الذي تلهو السناجب به، ولا الكستناء ما يوضع على المدفأة، ولا العفص ذاك الذي يتشبّه بالحور.. ولمّا يهتد ضارٍ الى فريسته، وحيث لم يكُ هناك جوع ولا شكوى، فالسماء أوسع ما تكون، والاوزُّ المهاجرُ ما زال طائراً لا تنوشه النسور... في الغابة التي لم تولد بعد، ولم تنحت اقدامُ الماعز صخورَها، ولمّا يخطّ احدٌ طريقاً بين عشبتها الى عين الماء، في الوهاد الموحشة تلك، وحيث تكونُ المصائرُ متقاطعةً أبداً، ثمة من يرى مأمنه هناك، ثمة من مازال يتخذ الامل وسادةً.
في المارثون الاول للريح، قبل النار والآلهة السارقين، قبل ابتلاع الأفق لخاتمة الطريق، يوم كانت الشمسُ تشرق بدفق واحد، والنجوم في خبيئة الرعد والغمام، ولا يرى أحدٌ مسرةً في مجلسه على النهر، فالطبيعة خرساء، لا يعرفها احدٌ ما تزال..في الايام الخوالي تلك، كنتُ أصغي وأنتظركِ. سعادتي أنْ أرى الطفلَ النائمَ بصوتك.