TOP

جريدة المدى > اقتصاد > الخصخصة فـــي الاقتصـاد العراقـي مضار عديدة ومصادرة للقرار الوطني

الخصخصة فـــي الاقتصـاد العراقـي مضار عديدة ومصادرة للقرار الوطني

نشر في: 17 نوفمبر, 2012: 08:00 م

د. عودت ناجي الحمداني

إن النهج والتوجه الاقتصادي للدولة العراقية هو الانتقال نحو النظام الرأسمالي واقتصاد السوق الحر كمحور للنشاط الاقتصادي  ومنح القطاع الخاص الدور الأساسي في الاقتصاد وإعادة هيكلة الاقتصاد العراقي على أسس رأسمالية  والتوجه نحو الخصخصة.
  والخصخصة في الاقتصاد  عملية تحول شامل في النشاط الاقتصادي من القطاع العام إلى القطاع الخاص وتعزيز دور القطاع الخاص في امتلاك وإدارة وسائل الإنتاج. أي انتقال الأنشطة الإنتاجية السلعية والخدمية المملوكة للدولة والخاضعة لنشاط  القطاع العام إلى الأفراد والشركات الخاصة المحلية والأجنبية.
ويجب التمييز بين الخصخصة والاستثمار.  فالاستثمار يعني إضافة طاقات إنتاجية جديدة إلى الأصول الإنتاجية الموجودة في المجتمع بإنشاء مشروعات جديدة أو التوسع في مشروعات قائمة، أما الخصخصة فهي  نقل الملكية العامة وإسناد إدارتها إلى القطاع الخاص ببيع أصولها  المملوكة للدولة إلى شركات القطاع الخاص وبذلك تتوقف الدولة عن تقديم الخدمات التي كانت تضطلع بها مباشرة وتعتمد على القطاع الخاص في تقديم تلك الخدمات.
موجة الخصخصة ..  
وقد اجتاحت موجة الخصخصة العالم في العقد التاسع من القرن العشرين، وكانت أمريكا وإنجلترا من أوائل الدول التي طبقت الخصخصة، ولحقت بها دول متقدمة كفرنسا وإيطاليا وأسبانيا وكندا، ومن ثم انتقلت إلى الدول النامية وبذلك أصبحت ظاهرة عالمية.
وتقوم فكرة الخصخصة وفقاً لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي على تحليل مفاده لكي تتجنب الدول المدينة إشكالات خدمة ديونها الخارجية  ومشاكل موازين مدفوعاتها، ينبغي عليها إعادة هيكلية اقتصادياتها، ولإنجاز هذه العملية يجب أن تلتزم بتطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي الذي يتضمن مجموعة من السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية التي يحددها صندوق النقد الدولي والتي تكون الخصخصة أهم مكوناته الرئيسية.  وبذلك أصبحت الخصخصة احد شروط  الإصلاح الاقتصادي التي يفرضها صندوق النقد والبنك الدوليين على البلدان المدينة كشرط  لعملية إعادة جدولة ديونها الخارجية.
فالبلدان الرأسمالية التي طبقت الخصخصة قامت بتحويل ملكية قطاع الدولة إلى الشركات الخاصة وهذا التوجه ينسجم مع طبيعة النظام الرأسمالي الذي تكون فيه الدولة حارسة لمصالح الطبقات الرأسمالية. وتصبح الوظيفة الرئيسية للدولة القيام بالوظائف التي لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها كالدفاع الخارجي والأمن الداخلي وجباية الضرائب والدبلوماسية.
وتختلف دواعي ومبررات الخصخصة من بلد لآخر وفقا لمستوى التطور الاقتصادي والظروف السائدة فيه. ففي البلدان الرأسمالية المتقدمة كان الدافع الأساسي للخصخصة منطلقاَ من مقولة (إن الدولة ليست أفضل رب عمل)  فالقطاع الخاص بمرونته ونزعته الجامحة إلى الربح السريع  يشكل الحافز الرئيسي لتطوير الإنتاج ويصبح مؤهلا  لتأمين القدرة التنافسية  بين المنشآت الاقتصادية  الكبيرة.
أما في البلدان الاشتراكية فقد مثلت الخصخصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي انقلابا عاصفا في  الفلسفة الاقتصادية،  في التحول من النظام الاشتراكي القائم  على مركزية الدولة في ادارة الاقتصاد  الى النظام الرأسمالي  القائم  على الحرية الاقتصادية.  فعملية الانتقال  من المركزية المطلقة في الاقتصاد إلى اقتصاد السوق الحر تطلبت تفكيك القطاع العام وتقطيع أوصاله كشرط أساسي لإحلال القطاع الخاص كبديل له .
وفي البلدان النامية فإن دواعي الخصخصة هي لتحويل القطاع العام إلى  القطاع الخاص بذريعة  التخلص من الفساد والخسائر التي يتكبدها هذا القطاع  وبحجة أن القطاع العام  تحول  إلى بؤرة  تستنزف الموارد المالية، وتثقل كاهل الموازنة العامة للدولة.
وأما مؤسسات التمويل الدولية كصندوق النقد الدولي  والبنك الدولي  فترى أن الخصخصة  تساعد البلدان المدينة في  توفير الموارد المالية اللازمة لسداد الدين الخارجي، وتوفر الشروط اللازمة  للاستفادة من  رؤوس الأموال الأجنبية.
ونستنتج من ذلك أن الخصخصة نظام وتوجه رأسمالي نحو اقتصاد السوق الذي يحقق التوازن الاقتصادي  التلقائي وفقا لما  يؤكده  ادم اسمث بتفاعل   قوى الطلب  والعرض. غير ان  الحقائق والوقائع  تؤكد  ان اقتصاد السوق لم يحقق التوازن المطلوب للعملية الاقتصادية وان الازمات المالية والاقتصادية  والنقدية التي يعيشها النظام الرأسمالي العالمي دليل على اختلال التوازن الاقتصادي، وان المشكلة  الحقيقية  تكمن في طبيعة النظام الرأسمالي.
الخصخصة مصادرة للقرار الوطني
إن الخصخصة  التي يجري الترويج لها في العراق هي احد شروط صندوق النقد الدولي لاعادة هيكلة الاقتصاد العراقي  والغاء الدور الاقتصادي للدولة   وتقليص فرص العمل  في القطاع العام والتوجه نحو خصخصته ، وبذلك  تصبح الخصخصة  إذعانا مذلا للتدخل الخارجي  ومصادرة صريحة  للقرار الوطني العراقي .
إن الخصخصة في العراق هي المصطلح الذي تستخدمه السلطات لتضليل المواطنين عن عملية النهب والاستيلاء على المشاريع والمؤسسات والممتلكات العامة للدولة وبيعها للقطاع الخاص الذي هو عبارة عن حفنة  من المستغلين والطفيليين والسماسرة المرتبطين بنظام المحاصصة الطائفية.  فالخصخصة بالنسبة للعراق  الذي يعيش أزمات  مستعصية  على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية ليست هي الحل الأمثل.
فالخصخصة في النهاية بيع مؤسسات الدولة الإنتاجية والخدمية  إلى القطاع الخاص الأجنبي والمحلي مما يؤدي إلى طرد أعداد كبيرة  من  القوى العاملة وزيادة جيش البطالة. إن الهدف الحقيقي  للشركات الاحتكارية تحقيق الثراء الفاحش وبذلك سوف تخلق الأزمات السلعية من اجل رفع الأسعار وتحقيق الأرباح الخيالية.
  إن  خصخصة الاقتصاد العراقي يعبر عن غياب الرؤية الاقتصادية للدولة العراقية وعجزها عن  توفير الخدمات الأولية للمواطنين. فقد أنفقت الحكومة  36 مليار دولار على الكهرباء ولم تتحقق أي زيادة ملموسة في الطاقة الإنتاجية وأصبحت الكهرباء في وضع أسوأ مما كانت عليه في الفترات السابقة .
فالمستثمرون المفترضون بقطاع الكهرباء و في المؤسسات الصناعية الأخرى ينتظرون الحصول على منشآت ومؤسسات جاهزة بعقود ومبايعات شكلية وفقا لتقاسم الغنائم والمحاصصة والتوازنات الطائفية .
فالتوجه نحو  الشركات الخاصة في إدارة الاقتصاد سوف يصطدم  بصعوبات وعقبات  جدية  لسببين
الأول: إن الشركات الخاصة تسعى لتحقيق الأرباح الريعية السريعة وهذا سيجعلها ترفع قسيمة الأسعار  بشكل جنوني وغير مسبوق  كما في كردستان الذي أصبح فيه سعر الكيلو واط من الكهرباء أربعة أضعاف سعر الكهرباء في بعض الدول الأوربية.
والثاني: إن الشركات المحلية والأجنبية لا تجازف باستثمار رؤوس أموال ضخمة في بلد كالعراق اقل ما  يوصف بالدولة الفاشلة ويعيش في فوضى الفساد المالي والإداري وعدم الاستقرار الأمني. فراس المال جبان ولا يجرؤ على المخاطرة.
هيكلة رأسمالية
إن فلسفة الإصلاحات التي تبنتها الحكومة العراقية تهدف إلى إعادة  هيكلة الاقتصاد العراقي على أسس رأسمالية. والجانب السلبي في هذه العملية فان الإصلاحات تتم بتدخل مباشر من صندوق النقد الدولي.
ووفقا لهذه الإصلاحات فإن صندوق النقد الدولي هو الذي يقوم بوضع برامج الإصلاحات ويشرف على تنفيذها وتصبح الحكومة العراقية مسؤولة عن تنفيذ هذه الوصفة وتتحمل الفشل والإخفاق الذي يرافق هذه العملية.
وقد فشلت الخصخصة فشلا ذريعا في البلدان التي قامت بتطبيقها كروسيا وجيكسلوفاكيا وكازاخستان واليونان وتركيا وباكستان ومصر والأردن والمغرب وتونس وماليزيا  وغير ذلك من الدول الأخرى. وحتى الدول الرأسمالية العريقة كالولايات المتحدة الأمريكية  وفرنسا وايطاليا واسبانيا لم تنقذها الخصخصة من الأزمات الاقتصادية والمالية العميقة التي تعصف بنظامها الرأسمالي.
لان هذه الإصلاحات تقوم على إلغاء دولار الدولة المهم في عملية التخطيط الاقتصادي كمدخل لبرنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي.
وعليه فالخصخصة تقوم على فكرة خاطئة وهي  أن برامج الخصخصة سوف تؤدي الى تعزيز المنافسة في المنشآت الصناعية و الخدمية وترفع  كفاءتها وبالتالي تستطيع تخفيض أسعار السلع والخدمات.  
الآثار السلبية للخصخصة
 إن الآثار السلبية للخصخصة كثيرة ومتنوعة ففي اغلب الحالات تؤدي الخصخصة  الى انعدام المنافسة خصوصاَ عندما  تتحول الشركات العامة لقطاع الدولة الى شركات احتكارية ، مما يتيح  لهذه الشركات زيادة أسعار السلع والخدمات إلى مستويات عالية  بهدف تحقيق الأرباح السريعة  على حساب المستهلكين.
وتؤدي الخصخصة إلى تقليص أعداد القوى العاملة في المؤسسات والشركات التي تطبق  الخصخصة مما يؤدي إلى طرد أعداد كبيرة من القوى العاملة وتفاقم  مشكلة البطالة، واندلاع أزمات اقتصادية ومالية وتدهور الأحوال المعيشية.  فالقطاع الخاص بما يملكه  من نفوذ مالي كبير وعلاقة وثيقة بالدولة و تشريعات ضامنة لمصالحة سوف يستخدم  كافة الطرق لاستغلال العاملين في مؤسساته سواء بطردهم من العمل او بتخفيض أجورهم او إطالة ساعات العمل وغير ذلك من أساليب الاستغلال الملتوية . كما  تؤدي  الخصخصة إلى  تقليص رقعة الاقتصاد الخاضع لسيطرة الدولة وتوسيع المساحة الخاضعة لسيطرة القطاع الخاص، مما يؤدي الى أضعاف دور الدولة  في تقديم الدعم والمعونة للفئات الضعيفة في المجتمع وإخضاعهم لقوانين السوق.
وتشير  تجارب الخصخصة التي طبقت في مناطق العالم  إلى تنامي  الرفض الشعبي   لفكرة  الخصخصة .  فقد  أظهرت  الدراسات والمسوحات التي أجريت حول جدوى برامج الخصخصة. إن مستوى  التأييد للخصخصة  في أمريكا اللاتينية انخفض من 75% في عام 1975 الى 35% في عام 2002. وفي إفريقيا شبه الصحراء أكدت نتائج  مسح 15 بلدا طبق  الخصخصة أن نسبة  الذين رفضوا فكرة الخصخصة 65%. وفي بلدان الشرق الأوسط وأوربا أظهر المسح الذي اجري في 8 بلدان بأن 67%  من السكان رفضوا  الخصخصة. وفي جنوب اسيا  (في سري لانكا ) أن نسبة 80% من السكان يعتقدون بأن مستوى معيشتهم قد تدهور بعد تطبيق  الخصخصة.
وفي هذا الصدد يؤكد البروفسور الامريكي نورث دوكلاس  Douglass North الحائز على جائزة نوبل  للاقتصاد (أن نقل القواعد السياسية والاقتصادية الرسمية لاقتصادات السوق الغربية الناجحة الى بلدان العالم الثالث وبلدان أوربا الشرقية ليست شرطاً كافياً لتحسين الأداء الاقتصادي).
ما دفع صندوق النقد والبنك الدوليين  المسؤولين عن فرض الخصخصة على البلدان المدينة إلى إعلان تحفظهما على فرض الخصخصة في السنوات الأخيرة ورفض مقولة أفضلية وضرورة الخصخصة.
ونستنتج من ذلك أن الأهداف الحقيقية للخصخصة التي يفرضها صندوق النقد الدولي هو سعيه الجاد لخدمة المصالح الطفيلية والتعجيل ببيع الاقتصاد العراقي إلى الشركات الاحتكارية، وتحويل العراق إلى بلد متخصص بإنتاج النفط الخام لتامين متطلبات الصناعات الرأسمالية  وإبقائه سوقا مفتوحة لاستهلاك السلع والبضائع المنتجة في البلدان الرأسمالية. ومما يعزز هذا التوجه فان  بعض القوى المهيمنة على السلطة هي أداة نموذجية لتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي.  
إن الوضع الاقتصادي الذي يعيشه العراق والأزمة السياسة التي تهدد بكافة الاحتمالات تجبر الحكومة على العمل  بهدوء لتهيئة المناخ السياسي الملائم لإعلان خصخصة قطاع الدولة التي دشنته بالترويج لخصخصة قطاع الكهرباء. وهي لهذا الغرض قد عمدت على إهمال مؤسسات القطاع العام الصناعية وعدم تأهيلها بوسائل الإنتاج الحديثة بقصد  إفشالها لتكون ذريعة للإجهاز على القطاع العام وبيعه الى الشركات الخاصة. وبذلك تعبد الطريق للسير الحثيث نحو النظام الرأسمالي واقتصاد السوق الحر لخدمة الفئات الاستغلالية و الطفيلية.
تحديات كبيرة
وعليه فان الصعود الجنوني في أسعار السلع والخدمات وزيادة عدد الذين يعيشون دون خط الفقر وانفلات أزمة السكن والبطالة والتدهور الأمني والاقتصادي وتفاقم الفساد المالي والإداري تشكل تحديا كبيرا لإقامة اقتصاد سوق حر ومتوازن وإنما تخلق ظروفا خصبة  لنشوء مافيات احتكارية و نهابه، في الوقت الذي يحتاج فيه  العراق الى اقتصاد متعدد المصادر  لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمن الغذائي.
فأزمة الاقتصاد العراقي لا تعالج بخصخصة  مؤسسات القطاع العام .  فالخصخصة  سوف تؤدي  إلى ترحيل  أملاك الدولة إلى اللصوص والطفيليين وتجار الأزمات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

العراق يقلص صادراته النفطية واستهلاكه المحلي
اقتصاد

العراق يقلص صادراته النفطية واستهلاكه المحلي

بغداد/ المدى أعلنت وزارة النفط، اليوم الجمعة، تخفيض وتقليص صادرات العراق من النفط الخام وتقليل استهلاكه المحلي. وذكرت الوزارة في بيان، تلقته (المدى)،: "تماشياً مع التزام جمهورية العراق بقرارات منظمة أوبك والدول المتحالفة ضمن...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram