TOP

جريدة المدى > عام > غواية المكان ما وراء الكتابة.. سلمان كاصد : ترك فراشه ونام على الطاولة

غواية المكان ما وراء الكتابة.. سلمان كاصد : ترك فراشه ونام على الطاولة

نشر في: 12 مارس, 2022: 11:18 م

ناجح المعموري

قدم الأستاذ الباحث فرج الله صالح ديب كتاباً مهماً حول أطروحات د. كمال الصليبي "التوراة جاءت من جزيرة العرب" والذي أثار كثيراً من اللغط وردود الفعل السلبية ،

لكنه في حقيقته العلمية انجاز كبير للغاية ، حيث قرأ الصليبي التوراة من خلال أسفارها الخمسة قراءة فيلولوجية مرتبطة بالمكان واللغة . وما كان سائداً في الجزيرة العربية ، وما توفر له من خرائط ، بالإضافة الى المرويات المتداولة التي تحولت الى مدونات بعد منتصف القرن الثاني .

الجديد في البحث الخاص بالأستاذ فرج الله هو فحص التوراة في اللغة والتاريخ والثقافة الشعبية . وسأحاول تقديم توصيف مركز وسريع عن دور الثقافة الشعبية ومجالها الجوهري في اغناء الأسفار التوراتية . التي كشفت لنا نوعاً من المجاورة العميقة ، والمحاورة مع السائد من الثقافة آنذاك . والسبب كما قال فرج الله : تأخر التدوين وارتباط ما يدون بغاية سياسية ، وهي نصرة الإسلام وثانياً تشكل نوع من القدسية حول اللغة وأخبار الدعوة في مراحلها الأولى ، وحين قعدت اللغة ، وتحجمت ونقطت . وأهملت اللهجات العربية الأخرى ، وباتت لغة القرآن خاصة بالنخبة ورجال الدولة . لذا لم يدون الفكر الأخر الشعبي والمعارض . وتضيء هذه الملاحظة أصلاً مبكراً للموقف الضدي من الثقافة الشعبية ، التي هي أكثر تمثيلاً للحياة والعلامات الاجتماعية والثقافية . وتأكد الباحث فرج الله من أن للثقافة الشعبية حضورها الكبير ، والعميق وقد استفادت التوراة منها في كثير من عقائدها وطقوسها وأساطيرها وقصائد الغزل فيها . لأنها ـ الثقافة الشعبية ـ هي القائمة والمتداولة بقوة آنذاك .

الدليل على رسوخ الثقافة الشعبية وعمقها التداولي ، قصص وأساطير عن شخصيات غير عربية ، مثل موسى ، وما قاله الناس حجاجاً في إسماعيل وغيره الا دلالة على ما رسخ في الوجدان والثقافة الشعبية . والذي دوّن من قبل اتجاه موال للسلطات ، جاءنا منقوصاً أيضا ، فمئات الألوف من المخطوطات والكتب محت احرقها العراق وداستها الخيول واكلتها النيران ..... من هنا فأننا نعاني اكبر غموض في معرفة التاريخ قبل الإسلام ، وإثناءه ومعرفة الجزيرة وحضارتها ، واصل اليهودية فيها وانتشار المسيحية ، والأوثان وحضارة اليمن الأساسية وهجراتها . ولذلك ظل الوجدان السلبي يختزن قصص الأنبياء في اللامكان / فرج الله صالح ديب / حول أطروحات كمال الصليبي / دار الحداثة / 1989 / ص10//.

طرح الباحث سؤالاً جوهرياً عن مرويات أبي لهب وأبو جهل ، وما قيل من شعر ضد الرسول من قريش وغيرها . هل أشعار الجزيرة هي تلك القلة من المعلقات ؟..... اين الغناء والحداء والأعراس والأتراح والقصص والحكايات وأغاني الأمهات لأولادها / ن .م / ص10//

بذل الأستاذ فرج الله صالح ديب جهداً ثقافياً وتحليلاً نقدياً لجهود د. كمال الصليبي . ناقش فيه توصلات الصليبي للقرابات اللغوية والوثنيات المعروفة آنذاك ، والمشتركة بين اليهودية والإسلام . ولعل الجهد المتميز تمثل بفحص فرج الله للعلاقة بين التوراة والثقافة الشعبية .

المثير ما يتمتع به الباحث من وعي وأدراك لما تعنيه الثقافة الشعبية كتعدد ثقافي وتنوعات خاصة بالجماعات السؤال الذي يتبادر للذهن هل كانت المرويا الغفيرة والمتنوعة غير المدونة تمثل الثقافة الشعبية ؟ وهل ما كان مدوناً من الحكايات والشعر هي ثقافة النخبة؟.

اعتقد بأن الوضوح غير كاف . وما كان متداولاً لا يمثل الثقافة الشعبية ، لان الجموع الغفيرة تتناقله ولا يعني كونها ثقافة شعبوية ، كذلك المدونات القليلة ليست نخبوية ؟

تثير هذه التجربة ملاحظة حول أهمية الكثير من المرويات في مجال الإقبال والحكايات والأغاني والحكم والأساطير . ووقائع محفوظة عن العلامات الجنسية والتي استفادت منها الأسفار التوراتية والتي كانت حاضرة في جنوب الجزيرة العربية التي يمكن التعامل معها بوصفها محفوظات تتداولها الجماعات ، وكثير منها يمثل بعضاً جوهرياً في نتاجات الحضارة العراقية القديمة وحضارات الشرق وهذا ما انشغل به الأستاذ فرج الله صالح ديب واعتبره من متروكات الثقافة الشعبية . لان الكثير من الذي أخضعه للمقارنة لم تكن التماثلات دليل على حضور تلك الثقافة بقوة . ولان التوراة ذاكرة لجغرافية واسعة أنتجت الكثير مما احتضنته الأسفار الخمسة ، فهي سجل لحكايات وتاريخ يسردياته وأغانيه وأناشيده وأنبياء كما حفظت في الذاكرة الشعبية ودونت لاحقاً وبالتالي فأن تأكيد جغرافيتها في غرب الجزيرة ، يكشف كثيراً من حضارات وثقافة وعلاقات المجتمعات الرعوية / ن .م / ص14//

قدم هذا البحث المهم اعترافا ثقافياً مبكراً بما توفرت عليه الثقافة الشعبية التي تعني سعة التداول والاختزان بعيداً عن التدوين ، لعدم توفر ممكنات ذلك وقدمها الثقافة منتجة لأهم المدونات ـ التوراة ـ واعتراف بغزارة الاستفادة والتوظيف كشكل من أشكال الحوار مع الفضاء أو الجغرافية الواسعة والاعتراف بأهمية الأخر من خلال توظيف ما يمكن استثماره . كما أكد علي فرج الله قدرته وصبره في الكشف عن التماثلات بين المرويات الشعبية والتوراة كمدونة . وأكد الباحث على تدعيمه لأطروحات كمال الصليبي ومؤكداً على أهمية الثقافة الشعبية وأثرها بإنتاج التوراة . التي لم تتنكر لأصولها ذات الحضور الغنائي التداولي كذلك الإنشادي وهما صفتان سائدتان في الجزيرة العربية ، لذا استفاد القرآن من هذا الحضور وطغيان الشعرية . وأشار ول ديورانت في قصة الحضارة : نحس في هذه الاناشيد بأوزان الشعر العراقي القديم ، ويكاد نسمع فيها أصوات المرنمين وهم يرددون على المنشدين ، وليس في الشعر كله ما يفوقه في تشبيهاته وتصويره . وعن المزامير يقول : قد تكون مجموعة من الأغاني البابلية الأصل ، نشيداً بذكرى عشتار وتموز ، وقد تكون من وضع جماعة من شعراء الغزل العبرانيين تأثروا بالروح الهلينية التي دخلت الى بلاد اليهود مع الاسكندر الأكبر / ول ديورانت / قصة الحضارة / ج2 / ص388ـ390//

لابد من أشارة تبلورت عبر قراءة تفاصيل الثقافة الشعبية التي اعتمد عليها الباحث واعني بأنها هي كل ما تعارفت عليه الجماعات من طقوس / شعائر / ومعتقدات / خرافات / أساطير / استثمرته التوراة بسبب قوة حضوره وطاقة تداولة بين الجماعات بشكل دائم ومستمر . وهي بالحقيقة الثقافة السائدة العامة وليست الشعبية ، لان ما هو سائد هو المتداول والموظف بالأسفار الجديدة . ( والسؤال الأخير : إلا يمكن أن نقول بأن القرآن قد وظف الكثير من مرويات الذاكرة الجمعية في قصصه وأساطيره ومعتقدات الإسلام وطقوسه . نعم هذا أمر ممكن جداً ، لان التاريخ بحضوره القوي يمثل ثقافة مرويات ، مختزنة بذاكرة وهي شعبية بالمفهوم الذي ذهب إليه الأستاذ فرج الله صالح ديب . وكلاهما التوراة والقرآن استفادا من مدونات الحضارات الشرقية مثل السومرية ، الاشورية والبابلية والكنعانية والمصرية والدلائل على ذلك معروفة . ولكن المهم ذكاء فرج الله يمنح الثقافة الشعبية مقاماً رفيعاً وتزكية أخذتها من الشعبوية والهامش ووضعتها في مجال اقدر على تغذية النصوص المقدسة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram