صدوق نورالدين / المغرب
يمكن القول إنه بصدور كتاب «عصيان الوصايا» للروائية والقاصة والمترجمة «لطفية الدليمي» عن « دار المدى «، تكون الكاتبة أضافت - وبحق - أثرا أدبيا دالا عميقا إلى سلسلة آثارها في الإبداع والترجمة،
إذا ما ألمحت للتجنيس الذي يندرج في سياقه التأليف، والمتمثل في «سيرة أدبية». التجنيس الذي لا يمكن حصره في الحقل الأدبي وحده، وإنما يتوسع ليضيء جوانب من حياة السيدة لطفية الدليمي - إذا جاز - علما بأنه ومن خلال العنوان يتحقق الإيحاء بأن ثمة تقاليد اجتماعية تقتضي مواجهتها بغاية فرض الذات وتأكيد الحضور. هذا تمثيل عن وصايا تفرض عدم خرقها، خاصة لما يتعلق الأمر بمسألة جد دقيقة تتجسد في القراءة المحددة شروطها داخل مؤسسة الأسرة. على ألا يفهم كون «عصيان الوصايا» سيرة ذاتية محض. إنها سيرة قارئة وقراءة، وبالضبط المفتوحة على الآداب العالمية وما تتفرد به من ينابيع الجمال والإبداع.
«..ومن هنا، من كل هذا، توصلت إلى استخفاف بالزائل، و إلى عصيان للوصايا التي تكبل العقل وتحول دون اشتغاله وانعتاقه، ومن هنا مسعاي لتحطيم الأطر التقليدية وتجاوزها في النص و الحياة و العلاقات الإنسانية.» (ص/ 23)
غواية ألف ليلة وليلة
مثّل كتاب «ألف ليلة وليلة»، نموذجا للفضول الأدبي والقرائي بالنسبة لأكثر من كاتب وأديب في مرحلة طفولته أو مراهقته، لما يتضمنه من حكايات تتفرد بغرابتها وخرقها للسائد من تقاليد الحكي إلى المادة التي يتحقق إنتاجها. بيد أن ما يترتب عن الفضول، الإبعاد والإخفاء. إذن ثمة رغبة في القراءة توازى بالحظر والمنع، لولا أن تحقق/ تحقيق الهدف يتم بالبحث والاستكشاف، وبخاصة في اللحظات التي يجد فيها نهم القراءة ذاته منعزلا أمام مكتبة تظهر وتخفي. تظهر المألوف وتخفي الغريب. والأخير يظل مرغوبا يتم التعلق به، إذا ما ألمحت لكون الثقافة الذكورية - إذا حق - تفرض سيادتها وهيمنتها على الفضول الأنثوي التواق كسر التقاليد والتمرد على الوصايا والممنوعات. وهو ما عبرت عنه الروائية لطفية الدليمي في هذه السيرة الأدبية:
«..رأيت قبالتي خزانة كتب: كان هناك سر الأسرار ومجمع الغوايات كلها، لذا حظر على البنات دخولها، مددت يدي إلى أكبر الكتب حجما، كان كتابا أصفر الغلاف وقد تبقع بضوء الكوة السماوية: ألف ليلة وليلة.»(ص/ 15)
«..كيف تكون هذه الآلاف من الليالي؟ تساءلت ابنة السنوات التسع وشرعت تبحث عن إجابة.»(ص/15)
وإذا جسدت «ألف ليلة وليلة» نموذجا قويا في الخرق وعلى الاستكشاف، فإن توسيع دائرة الاهتمام الأدبي ستتم من خلال سلطة الأب في فرض اختيار ما ينبغي للأنثى العمل على قراءته، دون أن يفهم كون اختياراته لا ترقى إلى المطلوب. فوعي الأب الفكري والثقافي (ماركسي النزوع) يتحدد في تكوين الشخصية، شخصية الأنثى قارئة ومبدعة، وهي بالتالي الشخصية التي تواكب مسار تحولات المنجز الأدبي والثقافي لما جسد – وبحق - نواة النهضة الفكرية العربية، في مرحلة دقيقة من تكون المجتمع العربي سواء على مستوى الإبداع أو ترجمة الآداب العالمية. فالأب من خلال التوجيه، يقرأ المستقبل الذي يعمل على بنائه كحاضر في لحظة زمنية يحسن ألا تترك للعبث أو المجهول.
« أحضر لي أبي عددا هائلا من روايات الهلال ومجلة الهلال وأعدادا من مجلة «كتابي» ورواية «الأم» لمكسيم غوركي وروايات أخرى لتورجنيف وديوان الجواهري الذي أدهشتني قصيدته عن (أرسطو) وقصائده التي تهجو الحكام ويتداولها المعارضون ويبشرون بها.» (ص/ 17)
إن الموازاة في القراءة بين العربي والغربي، صورة عن الثقافة المأمولة كما الشاملة التي تفترض في المثقف العربي، وهو ما أدركته الروائية لطفية الدليمي وعملت على ترسيخه. إلا أن عالم القراءة لم يكن ليحجب الاحتفاء بعالم الطبيعة في مفرداتها الآسرة:
« .. لشغفي بالطبيعة أدركت أهمية الاختلاف، وصرت أحتفي بالمختلف والمتفرد وأحترم من يتمرد على السائد ويفلت من التنميط.» (ص/ 21)
الولع بالكتابة
تورد لطفية الدليمي في تقديمها ل «عصيان الوصايا»، إشارة إلى قولة الكاتبة الأمريكية «جويس كارول أوتس» بخصوص تحديدها لمفهوم الكتابة، إذ ترى بأنها لعنة. هذا التحديد الذي يبدو في الظاهر أشبه بالسلبي، يضاده ثان تفرده الروائية للكتابة تأسيسا من وضعيتها الاجتماعية والثقافية حيث يتحول المفهوم من سلبيته إلى إيجابيته. تقول لطفية:
« الكتابة زورق نجاة ينأى بنا عن العابر والزائل، لكنه يأخذنا إلى متاهات موحشة وخوض تجارب عسيرة لم نتحسب لها.» (ص/ 9)
فالكتابة تأسيسا من هذا التعريف والوضعية، تعد منطلقا لعبور الذات نحو حريتها. وبالتالي إنتاج قول غايته كسر التقليد وفرض قوة حضور الشخصية. هذا التأكيد يجابه بالعراقيل والإحباطات، إذ المألوف أن الكتابة لا يمكن أن تكون إلا ذكورية. من ثم أقصيت الأنثى من مجال القول والتعبير، إلا في الحالات التي تمتلك فيها الكفاءة والقدرة على المواجهة، بالرغم من حدة الصعوبات:
« بالكتابة تجاوزت وضع الأنثى المقصاة من واجهة المشهد الثقافي والفكري في مجتمعاتنا وثابرت طويلا وعملت في أقسى الظروف، متخلية - بزهد حقيقي ومن غير أسف - عن الكثير من متطلبات الحياة والعلاقات الاجتماعية لأحتل الموقع الذي أردته بإصراري وجهد السنوات الطوال.» (ص/ 10)
إن الولع بالكتابة، قاد إلى الرهان على الحكي والسرد. الرهان الذي حدد كاختيار في جنسين أدبيين (القصة/ الرواية) إبداعا وترجمة، ولئن تقتضي الموضوعية اعتبار الترجمة بمثابة إبداع أيضا، دون الغفل عن كون الاختيار الإبداعي يتسم بحرية الإنجاز بعيدا عن التقيد بأشكال جاهزة. فلا مفهوم ثابت لجنس الرواية والقصة. من ثم يفعل الحلم في التخييل والبناء النصي، في بلاغة الضم والحذف، التقديم والتأخير، وبالاعتماد على اللغة في بعديها الرمزي والواقعي. وتبقى هوية النص الدقيقة، ما يثبته المؤلف/ المؤلفة على غلاف كتابه، مما يقتضي ويستلزم التقويم في حدوده:
« تمتزج في نصوصي أساليب القص والشعر والمعلومة التوثيقية في شكل إبداعي غير قابل للتجنيس الصارم تحقيقا لحريتي في اختيار الشكل الذي يناسب رؤيتي للعالم.» (ص/24)
إن الولع بالكتابة صورة عن الارتباط بالحرية في الواقع كما في الخيال. وهو ما نحته الروائية والمترجمة لطفية الدليمي.
في صحبة الكبار
شكلت صبحة الكبار - إذا حق - الحيز الأوفى من أو في هذه السيرة الأدبية. والقصد تمثل تجارب الأدب العالمي التي أثرت بقوة في مسار الروائية والمترجمة لطفية الدليمي. هذه التجارب تتميز بالاختيار أولا، من منطلق كون القارئ لا يمكنه الإحاطة بالكل. وأما ثانيا، فيسمها التنوع، إذ لم تقتصر على الأدب الفرنسي وحده، وإنما الأنجليزي، الإسباني والأمريكي، سواء في الصيغة المترجمة أو الأصل، حيث تفرض اللغة الأنجليزية حضورها.
وتحققت صحبة الكبار في هذه السيرة الأدبية، من خلال عرض أهم اللحظات في حياة الشخصية الأدبية العالمية، وهو ما يميزها وتتفرد به أو تشارك غيرها الخاصات ذاتها. ويتم اللجوء إلى القراءة المقارنة من حيث المادة المشتغل عليها أو صيغة الإنجاز. كمثال المقارنة بين «إملي نوثومب» و»كنوت هامسون» بخصوص موضوعة «الجوع»، إلى استجلاء التداخل الحاصل بين «لعبة الكريات الزجاجية» (هرمان هسه) و»الموت في البندقية» (توماس مان).
ويحدث أن تمثل الرواية جانبا استعاديا في حياة الروائية لطفية الدليمي، كنموذج ما يتعلق بحرق الكتب. فتأسيسا من رواية «451 فهرنهايت» (راي برادبري)، تستحضر الروائية صورتها كقارئة في الحالات التي تداهم فيها الجهات الأمنية البيت بحثا عن كتب ممنوعة أو غير مرخص بها بقراءتها، فكان يتم حرقها ودفن رمادها في الحديقة وزرع شجرة ورد الجوري في المكان نفسه.
إن لطفية الدليمي من خلال هذه الصحبة التي هي في الأصل صحبة العالم، تجسد ثقافتها الموسوعية ومرجعياتها المستحضرة كتابة وتأثيرا، وعبر «الثقافتين» (الأدبية والعلمية).
يبقى القول بأن الحوارات المدرجة في ختام هذه السيرة، تستجلي وتضيء العالم الأدبي الإبداعي للروائية والمترجمة لطفية الدليمي، وهو ما أغنى السيرة وأكسبها قيمة وإضافة تقرأ وتجدد قراءاتها باستمرار .