ستار كاووش
ما حدث معي البارحة غريب حقاً وغير مُتوقع، فقد حضرتُ -بعد الكثير من التردد- مناسبة إجتماعية. فأنا لا أحضر كثيراً هكذا مناسبات، بسبب ضيق الوقت وكثرة الإهتمامات والمشاغل ولتفاصيل تتعلق بالمزاج. في النهاية حضرتُ المناسبة بدافع الفضول،
وهناك تعرفتُ على الرجل الخمسيني الذي أود إِخباركم عنه. فبعد أن مددتُ له يدي للتعارف، ودارَ حديث متقطع بيننا، سألني إن كنت أحب الغناء فأجبته بنعم، دونَ تحديد نوع الغناء الذي يُعجبني، وياليتني لم أُجِبهُ بنعم، فلو كنتُ أعرفُ ما سيحدث لجمعتُ كل لاءات العالم وأضفتُ لها كل حروف النفي ووضعتها أمامه، لكن سبق السيف العذل كما يقولون، ليمضي المساء بطريقة مختلفة وغير متوقعة لشخص مثلي له عالمه الشخصي. في بداية الجلسة، إنشغلتُ قليلاً بالحديث مع بعض الحاضرين، ثم إلتَفَتُّ نحو هذا الضيف بعد أن سمعته يهمهم مع نفسه ببعض الكلمات وبلهجة بغدادية لطيفة. وبعد لحظات من إنشغالي بالحديث مع أحد الموجودين، تناهى لي صوته من جديد، وأخذ بالتصاعد وكإنه يردد شيئاً ما وينظر اليَّ، مرَّ بعض الوقت في حوارات جانبية صغيرة، تخللتها رشفات قليلة من الشراب، وأنا مستغرق بالتفكير بوقت العودة الى البيت والمرسم، وفجأة صار صوت الرجل أكثر وضوحاً، فدرتُ بصري بهدوء نحوه، ولاحظته كيف أخذَ رشفة طويلة من شرابه المفضل، ونَكَّسَ رأسه قريباً من صدره، قبلَ أن يديرهُ نحوي ببطء ويردد بهدوء وبإيقاع يعرفه العراقيون (من بايكه هذا الدیچ؟!) قالها وهو ينظر اليَّ كمن ينظر الى متهم. فوجيء الموجودين بصوته، مثلما فوجئتُ بمن يردد هذه الأغنية في قرية هولندية، والتي ذكرتني بمطرب المربعات فاضل رشيد. لكنه رغم نظرات الجميع أخذ يرفع صوته شيئاً فشيئاً وهو يكرر ذات اللازمة، بحثاً عن سارق الديك، فمرة يكتشف إن من سرقه هو علوان، الذي صنعَ منه طبخة غريبة، ومرة إخرى سرقه حسون الذي تفَنَّنَ بأكلِهِ، وثالثة سطى عليه عيسى الذي حوله الى وجبة سريعة وأخفى معالم الجريمة، وسارق رابع لا أتذكر إسمه، وهكذا تعدد السراق، والديك واحد، وتغيرت الطبخات والمغني العتيد لا يريد أن يهدأ. حتى إنه أخذ يعيد اللازمة ويكررها كمن يبحث عن بعض المفردات، ثم نظر اليَّ نظرة إتهام وكإنه يتذكر إسمي الذي أخبرته به في بداية الجلسة، لينطلق صائحاً ( يكولون باكه ستار…) ليتحول الديك بنهاية المقطع الى وجبة للخطار حسب روايته. فقلتُ له مازحاً كي أخفف من وطأة ما يحدث (أرجوك لا تورطني بسرقة الديك، بكل الأحوال أنا نباتي لا تُثبَت عليَّ السرقة) فنظرَ اليَّ بعينين نصف مغلقتين وإستأنف (هذيانه) وهو يبتسم مع كل حادثة سرقة، ويعيد المقاطع المتتالية ويلوك بالديك المسكين، ولو كان يلوك بعجل كبير لكان قد انتهى منه، لكن الديك قد صمد معه كثيراً على ما يبدو! وهكذا أكملَ الجلسة وهو يتلفتُ نحوي وبإقاع يتكرر مع حضور الأقداح اليه، لا يكف عن ترديد ذات الأغنية بإيقاعات خفيفة مرة وعالية مرة أخرى. توقف برهة، ثم نظر اليَّ من جديد، لينطلق بصوت عالٍ هذه المرة (أُومِنْ بايكه لْهذا الديچ؟). كان عليَّ التخلص من هذا الموقف الذي إختلطت فيه الغرابة بالطرافة، فذهبتُ الى التواليت، ومن هناك سحبتُ نفسي بشكل مباغت نحو الخارج، وأنا أسمع صياحه الذي ظلَّ يطاردني مثل العلب الفارغة التي ربطتها خلف سيارة صديقي هانس يوم زواجه. هكذا تركته خلفي منشغلاً بالبحث عن السارق وخرجت بأقل الخسارات التي تمثلت بقدحي الأخير الذي أبقيته خلفي ممتلئاً، وتنفستُ مبتسماً في الهواء الطلق، لكني لا أنكر بأنني قد تمتعت بعض الشيء، لكنها كانت متعة غريبة. عدتُ الى لوحاتي وجلستُ أفكر إن الإنسان عليه أن يختار الذين يجالسهم حقاً، فالناس بشكل عام ليسوا سيئين ولا جيدين بشكل مطلق، لكن هناك فروقات كبيرة بكيمياء التواصل، وتُوجَد إختلافات تصنعها الإهتمامات والميول والطباع وحتى المواهب. التمدن هو أن لا ترفع صوتك عالياً وسط المجموعة، أن تأكل بهدوء وتشرب بروية، وتتحدث حين ترى الاستعدادات موجودة لسماعك. أما الغناء فهو لا يحدث إلا مع أشد المقربين. فلا تدخل مكاناً غير مكانك ولا تلتئم مع النفوس التي فارقت الجمال، وبعض الظرافات لا تدوم لأكثر من نصف سهرة، والكثير من التظاهر يكشفه قدح عابر. قلتُ لنفسي: إعرف حدودك أيها الولد، وإلا سينط عليك كل يوم شخصاً مختلفاً وهو يقص عليك بطريقته الخاصة حكاية ذلك الديك الذي لا يعرف أحد من الذي سرقه حقاً.