طالب عبد العزيز
إذا كان البدويُّ قد استل مفردات لغته من الرمل والهاجرة والخيمة والناقة وسواها، وهي عوالمه في البرية، حيث يعيش، فقد شكلت النخلة جزءاً كبيراً من قاموس لغة الحَضَريّ، الذي استوطن الماء، وعلى ضفاف الانهار. ومع ما فعله ويفعله الزمن وتحدثه الالسن في جسد اللغة من تصحيف ونحت وتحريف وإبدال وإقلاب وسواها إلا أنَّ أهل النخل بخاصة مازالوا يتداولون الكثير من مفردات أجدادهم تلك، في تداول جميل، له وقع خاص، ينعش روح اللغة، مقلما ينعش قلب مستعمله.
أحارُ أحياناً في إيجاد المقاربة اللفظية بين ما وقر في أذني من كلام أبي، أو عمّي وما أقع عليه في كتب فقه اللغة وقراطيس أهل النخل، وما أتصفحه في المعاجم. فهذا أبو حاتم السجستاني يسمّي قطْعَ سعف النخيل بـ(التعريب) والذي يعرّبه بالمعرِّب والعارب(مصلح الشيء) وهي قريبة من التكريب، أي قصّ كرب النخل، وفي عجمة واضحة عندنا اليوم يسمّون الكارب (مكربچي) لكنني، سمعتهما يتحدثان عن أصول البذور النادرة، التي اختفظوا بها دهوراً فيقولون هي عريبة، أو مْعرّبة، في اشارة الى تواترها وتحسينها لديهم، وسمعت أحدَهم يقول:” عرّبْ جيش اللف ما ينفع” وهو يتحدث عن تزويج أحد أبنائه امرأة من غير أهله.
ولعلهم( سكان النخل) كانوا قد تمثلوا حديث النبي، الواقي من الجوع (بيتٌ ليس فيه تمر أهلُه جياع) في حرصهم على ادخار التمر الى الشتاء، والتفنن في حفظه وخزنه، وينسب صاحب اللسان الى الامام علي قوله:” أفلحَ من كان في بيته قوصرَّه – يأكلُ منها كلَّ يومٍ مرَّه” . هل أتذكر أبي الذي عادَ أحدَ أصدقائه، وقد حُمَّ(أصابته الحمّى) ذات شتاءٍ أمحل الناس فيه، قبل أكثرثلاثة أرباع القرن، وهل أستعيد صورة أصابعه الخمسة، وهي تتكور مجتمعةً، لينقل لنا هيأة كفِّ صاحبه، وهي تطلب قليلاً من التمر بقوله:” لو جاءني أحدكم بفندوس من التمر لقمت معافى من فراشي هذا»
وفي حثّه على التبكير في كلِّ فعل للخير لطالما سمعته يردد( الهرفْ غِرفْ) لعله سمع قول المحرري المديني:” هرّفت النخلة تهريفاً إذا عجّلت، وهرّفَ النخلُ يهرّفُ، ورأيت قوماً يهرفون الى الصلاة يعجّلّون” وحتى وقت قريب كنت أسمع البقالين في سوق البصرة القديمة وهم يقولون الزَّبْيل بعشرة فلوس، وليس الزَّنبيل، كما هي اليوم، وقد وفدت على السنتهم من بغداد ومدن الفرات الاوسط . ومما قرأته عند ابي حاتم أنَّ البصريين يقولون (فدْرة) وهي القطعة من التمر، فيما نقول اليوم فردة، فياله من تصحيف جميل، لكنني توقفت عن الشدغ، وهو افتضاح البسرة في النخل، فما زالت تتصادى قولة أبي، في حثّه على تلقيح النخل الذي لم ينوّر، أي لم يخرج طلعه من كافوره (ديخه) بعد عيد النوروز: (افدغها ولقحها). وبين الشدغ والفدغ زمن يمضي، وأجمل منه أنهم يقولون (الهضيم) للطلع الذي لم يخرج من كفرّاه، في اشارة لبياضه وجمال صورته.
ينصحني الفلّاح الذي وليته أمر تلقيح بعض الهُوج من النخل(نخلة هوجاء هي التي تتعجّل الإطْلاع) بأن لا أدعَ شماريخ طلع الفحول مكشوفة أمام النحل، فيقلُّ تخصيبها، فهذه الحشرة تجد ضالة طعامها في حبيبات الطلع قلت: ما أجمل ضالة النحل عندي، سأتركُ بعضها له.