حيدر المحسن
هل الماضي ضروري؟ وهل يستطيع الإنسان العيش خارج حياة جيله وحياة عصره؟
شغلني هذا التساؤل كثيرا، وصار نوعا من التفكير الذي أحبّه، وأشعر بشيء من الاضطراب نحوه. وكي أستوعب الأمر أكثر أكثرت من التردّد على المقابر والسّفر إلى أقصى المدن التي تعيش في التّاريخ القديم.
ولكن هناك نوعان من الماضي، الخاصّ والعام، الأول قصير، وأحداثه غير مهمّة بالمرّة، كما أن دلالاته فقيرة، ولحسن الحظّ اكتشفت بأنه يمكنني التعويض عن هذا الفقر باللّجوء إلى تاريخ الأسلاف. شيئا فشيئا، وسنة بعد سنة صرت أرى هذا التّاريخ الغامض، وأتمثّله بأشكال الأوشام التي يصنعها الشّباب على أجسادهم، وأحيانا ينهض لي في تضاريس العروق على ورقة سِدرة ساقطة على الأرض، أو لا هذا ولا ذاك، كلّ ما مرّ ببلدي يمكن أن تصوّره لي حدقتا حيوان نافق.
للكاتبة الأمريكية «ماري ليرنر» قصة عنوانها «نفوس صغيرة»، تصف فيها برجا بأنه “أشبه بكتلة من التراب لأنه مبنيّ من الطابوق المفخور بالشّمس، الذي يثير سُمكه الدّهشة، وبين كلّ ثلاثة أو أربعة أقدام طبقة من القصب. وأكثر ما لفت انتباهنا الطراوة الغريبة للقصب، الذي يبدو كما لو أنه وضع قبل بضع سنوات فقط، مع أن أفضل الروايات تؤكد أنه بُني قبل أكثر من أربعة آلاف سنة». شاهدت مثل هذا النوع من القصب في جدران زقورة عقرقوف، في المدينة التي تقع قرب بغداد، وكانت عاصمة للكيشيين في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وتلمّست يداي طراوة سيقان النبات، وكانت تبدو أكثر حقيقيّة من النبات الحيّ.
اليوم ينتهي، الغد ينتهي لأنه غير كائن، وحده الأمس لا ينتهي لأننا نعيشه في خيالنا، وكذلك في الواقع. إن لفظة “الآن” غير حقيقية، لأن زمنها يمتدّ آلاف السّنين إلى الوراء، وبهذا يكون الماضي لا يزال حيّا بالنسبة إلينا، ولن ينتهي قطّ. من يكتب عن الأمس البعيد يفكّر في أمرين؛ الرّغبة في العزلة عن الحاضر، والتّوق إلى التواصل مع الأمس، كما أن المستقبل لم يعد مغناطيسيّا وجاذبا. عبّر فلوبير عن انتقامه من العالم الذي كان يعيش فيه بكتابة رواية “صالامبو” وأقرّ بذلك بشكل عفوي: “قليلون هم من سيكتشفون إلى أيّ حدّ ينبغي على المرء أن يكون حزينا حتى يتكبّد عناء إحياء قرطاجة”. رواية “صالامبو” ما هي إلا غطاء خيالي لمادة شخصية في حياة فلوبير، وهو يحاول استمالة الماضي من أجل إعادة تشكيل الحياة، التي سوف تكشف عن نفسها، لكن بالصورة المرجوّة.
ولكن كيف لي أن أعثر على آثار الماضي البعيد والقصيّ والموغل في القِدم؟ كيف لي أن أهتدي إليه دون دليل؟ كيف أعيد شعلة النار إلى رماد مبعثر؟ وأخذت أبحث في كتب التاريخ لا عن المادة العلميّة، ولكن عن الحياة الراقدة تحت ركام من الرماد. يقول ألكسيس كلايرال دو توكفيل في كتابه «نظام الثّورة القديم»: «التّاريخ معرض لوحات حيث يعرض قليل جدّا من النّسخ الأصليّة، وكثير من اللوحات المقلّدة»، واخترتُ البحث عن الفنّ القائم في تاريخ إنساننا، والذي يرفض الموت، تحدوني في ذلك رغبتي الكبرى في تذَكّرُ ما كان، ونسيان ما سيكون، كما لو أن الأمر يبعث فيّ الشّعور بأنّي منيع، بل إني كنت أفكّر بأن الخلود يتحقّق لمن يطّلع على النسخ الأصلية، حتما.
أطلقتُ على مجموعة القصص هذه «كتاب الأشباح» لأن جميع الشّخوص فيها غادرونا منذ زمان طويل، ويظهرون للقارئ بين الصّفحات بهيئة شبحية، وأعلى ما يطمح إليه الكاتب هو أن يفعل سحر الفنّ فعله، وتبدو الأشباح عندها أكثر حقيقية من الناس الذين يعيشون بيننا، وربما كان لهم تأثير أقوى في حياتنا.
يقرّر كاتب يعشق التاريخ، هو «غوستاف فلوبير»، هذه النظرية: “بما أن القصص يجب أن تكون في الماضي، إذاً كلّما كان الماضي أبعد فذلك أفضل”.