ريسان الخزعلي
(1)
في متداول ثقافتنا العراقية / الشعرية وبوضوح بعد عام 2003 حيث اتّساع مساحة النشر في الصحافة، والظهور في برامج الفضائيات، والكتابة على شاشات التواصل الاجتماعي، إستسهل الكثير من القرّاء وكذلك الكثير ممن يكتبون (الشعر) وبخاصة الذين يكتبون (الشعر الشعبي) اطلاق التوصيف (مدرسة شعرية) على الشاعر (س) أو (ص) وحتى على الذين في بداية الممارسة الشعرية.
ومثل هذا الاستسهال يعود إلى طبيعة تكوين الذائقة وجذور تشكيلها ومديات فهم الشعر وفكرة الشعر فنّاً وثقافة ً وممارسة حياتية / جمالية وموقفاً وجوديا ً.
صحيح، إن َّ إعجاب التلقّي يحتمل الكثير من التباين بين المتلقّين نتيجة التباين الثقافي بحدوده الأبجدية والمعرفية، ونتيجة لهذا التباين هنالك مَن يرى أن ْ لابد َّ من (تسلية) جاهزة يوفّرها له ُ الشعر بالمباشرة والبساطة والوضوح والسطحية، وإن َّ هكذا محددات كما يراها، هي المعيار القياسي في التذوّق والتلقّي.
إن َّ فهما ً مثل هذا، يضع الشعر في الاستدراج الذوقي المتراجع فنيّا ً، ويجعل منه ُ ظاهرة صوتية خطابية طربية لاغير، بعيداً عن الانصات العميق لجوهر الشعرية وعناصرها، كما أن هذا الفهم يبعده ُ عن المقاسات الفنية / الجمالية والمحددات الابداعية العالية التي جاءت بها النظريات الأدبية والمناهج النقدية التي جعلت منه فناً متعالياً لايخضع للمعايير بحدها المتدني. ولا أُريد هنا أن أستعيد طروحات (اليزابث درو) في كتابه (الشعر كيف نفهمه ُ ونتذوقه) وغيره من منظّري النظرية الشعرية عربياً وعالمياً، كون الاستطراد هنا سيبعدني عن فكرة (المدرسة الشعرية).
(2)
في الشعر العراقي، الفصيح منه والشعبي، لا توجد مدرسة شعرية، وإنما هنالك ألوان وأنماط وأساليب كتابة متنوّعة والمت مبدعيها، ومثل هذا النفي يستند مرجعياً ومعرفياً إلى أسباب وظروف نشأة المدارس المعروفة عالمياً في الآداب والفنون.
إن َّ وجود (مدرسة) يقوم على اشتراطات متعددة، من بينها: وجود جماعة ثقافية تشترك بالأفكار والرؤى والأهداف، بيانات تأسيسية توضّح المنطلقات النظرية والتنظيرية، استدلالات منهجية داعمة، وعي بالضرورة الفنية، فهم خاص للشعر وفكرة الشعر وتاريخ الشعر وزمن الشعر ودَور الشعر، وعي خاص باللغة يفوق الاستخدام العام لها وصولاً إلى لغة شعرية متفردة، ادراك لمستويات التوصيل والتلقّي، احاطة معرفية عميقة بعلم الجمال، فهم علاقة الفنون التشكيلية والموسيقى والمسرح بالشعر، معرفة بمحفّزات الكتابة بين حدّي الواقع والحلم، وهل الشاعر فرد في مجتمع أم فرد من مجتمع، الموقف من الابداع والآيديولوجيا والسلطة، اصدارات تعكس السمات الفنية والجمالية المشتركة بين جماعة المدرسة وبما يُرسّخ هذه المدرسة ويضمن استمرارها ومديات تأثيرها...الخ.
(3)
واستدلالاً بالمحددات المذكورة، يكون نفي وجود (مدرسة) في الشعر العراقي اثباتا ً قائما ً، كما أن َّ اثبات وجود أنماط وألوان وأساليب كتابة متنوعة في الشعر العراقي من تلك التي تمتلك قدراتها الفنية العالية الموازية لتطوّرات وتحولات الشعرية العالمية أوضح من أن يُشار إليها.
(4)
من الإنصاف أن نُشير إلى سعي الشعرية العراقية الحديثة في مجالها التنظيري على مستوى اصدار البيانات الشعرية الساعية لتشكيل هوية شعرية / فنية خاصة ومغايرة للسائد وربما في طموح لتأسيس (مدرسة شعرية). ففي عام 1969 صدر البيان الشعري بتوقيع الشعراء (فاضل العزاوي، سامي مهدي، فوزي كريم، خالد علي مصطفى) وقد نُشر في مجلة (الشعر 69) وحقق ماحقق من إثارة في الوسطين الثقافيين، العراقي والعربي. كما صدر (بيان القصيدة اليومية) بتوقيع الشعراء (خزعل الماجدي، غزاي درع الطائي، عبد الحسين صنكَور) ونُشرَ في مجلة (الكلمة) في السبعينيات، ومن ثم جاءت بيانات الشاعر خزعل الماجدي اللاحقة.
بيان الشعراء الأربعة الذي يمت ُّ بأكثر من صلة لبيانات (بريتون) السريالية، لم تتحقق دلالات مضامينه في شعر شعرائه بعد صدوره رغم أهميّة ما جاء به من رؤى ً وتصوّرات فنية حالمة بتأسيس شعري جديد، كما أن َّ الاختلافات الفكرية والآيديولوجية بين شعرائه لم تكن عائقاً في التوقيع على ما جاء به، إذ كان الهاجس الفني هو المشترَك الذي يوحّدهم. أما بيان القصيدة اليومية ومع انسجام الموقّعين عليه فكرياً – مع أن َّ فكرة القصيدة اليومية كانت مطروحة ومتداولة في الشعر العالمي – فلم يحقق شعراؤه شيئاً من مضامينه في شعرهم إلا ماندر. وكذلك بيانات الشاعر خزعل الماجدي بقيت في توهّجها التنظيري الذي قاده ُ إلى البحث في الميثولوجيا والأديان ببراعة، إلا أنه واصل الكتابة الشعرية بوعي (العقل الشعري).
وفي الخُلاصة، إن َّ شعراء البيانات قد غادروا مقترحات بيانتهم التنظيرية وتمسّك َ كل ٌّ بلونه ونمطه وإسلوبه في كتابة الشعر، وتفاعلوا مع التحوّلات السياسية التي حصلت بعد عام 1978 بوعي يرتبط بثوابتهم الفكرية والآيديولوجية وذهبوا إلى أجناس أدبية أخرى تُضاف إلى جنسهم الشعري: الدراسات، المذكرات، الروايات، الترجمة، الميثولوجيا والأديان وغيرها. وما عاد هاجس التنظير والبيانات شاغلاً...