حيدر المحسن
آخر صفحة قرأتها الزوجة التي توفّيت بحادث سيّارة من كتاب «حجر الفلاسفة» كانت تحمل رقم 29، «تماما مثل عمرك. هل يعني ذلك شيئا؟»، يقول الزوج في نفسه، وهو يدور في البيت، مفتّشا عن أشياء إمرأته، وقد تحوّلت إلى رموز يبقى يعتاش عليها بقيّة عمره:
«هل تذكرين مفاتيحك؟ وزنهم 78 غراما، وكان الأكبر بين المجموعة هو مفتاح سيّارتك بطول 73 ملّيمترا». رغم صعوبات الحياة لكننا نستطيع أن نجعل المأساة مصدر ضوء نرى بواسطته وجودنا بصورة مختلفة. هو دفء قلب الإنسان الذي يأتي بالمعجزة، والحيوان هو الآخر لديه قلب دافئ، وكذلك المواد التي ندعوها جمادا، كما يخبرنا القاصّ والروائي الأنكليزي المعاصر جون ريفنسكروفت (1954 -) في قصته “الأشياء التي تركتها وراءكِ”*. يعثر الزوج على شعرتين ملتفتين ببطانة سروال زوجته: «إنه شعرك... إحدى الشعرتين تبلغ 24 مليمترا طولا، والأخرى 27.5 مليمترا”. يُلصقهما على الورقة، ويدوّن تفاصيلهما. وهكذا يفعل مع مقلّم الأظفار، ومشدّات الصدر، والأوراق التي تحمل كلمات أو «شخبطات»... وتتحوّل هذه الأشياء بمرور الأيام إلى مداخل للذكريات، وإلى ممرّات من الوميض: «أمرّ عبر هذه، أو تلك، لأجد نفسي في بقعة مختلفة منك، بقعة مختلفة منا”. ترمي الزوجة خاتم الزفاف في أحد الأيام في الهواء، ويصير في وعاء الكلب، ثم يستقرّ داخل بطنه. وعندما يخرج أخيرا مع الغائط، تقوم الزوجة بتنظيفه، وتقول ضاحكة: “يجب أن يصبح هذا الأمر رمزا”. ربما كان هذا الرمز، من بين جميع أشياء المرأة الميّتة، هو الأقوى، وهو الذي ترك أثرا قدسيّا في سنين العِشرة القليلة بين الزوجين.
سعدي يوسف:
“سلامٌ على الخبز أسمرَ مثلي | سلامٌ على قهوة في الصباح الذي يتمشّى وئيدا | سلام على جارتيّ | سلام على قطّتي | وسلام على الكلب، يُقرؤني، بالنُباح الخفيض السلام!”.
الكلب ينبح والقطّ يجري، يخمشُ الأرض بأقدامه الناعمة، وتدور الأرض. القطّ يجري لأن الكلب ينبح، ونحن نجري مع الأرض، والأرض تجري مع نفسها، هـذه دورة اليوم. وكان الكلب ضخماً، يركض ويلهث، وينبح. ثم تسلّق القطُّ سياجَ البيت، وظلّ ساكناً، والكلبُ كفّ عن النباح. يا للهول! الأرضُ توقفتْ، ونحن كدنا نموت. صحتُ بالكلب: يا كلبَ قلبي، انبحْ، كي تعود الأرض حيّةً، وتعود لنا الحياة... يا كلب عيني، انبح على القط ليجري، وتدور الأرض!
ورد هذا النصّ في كتاب المصايد والمطارد لأبي الفتح محمود بن الحسن المعروف (بكشاجم):((وكان الكلب اسم أحد الأشهر الاثني عشر قبل الإسلام أما الآن فقد صار نجسا، ومن دهائه أنه لا يخفى عليه الميت والمتماوت في تشممه، ويقال إن المجوس لا يدفنون ميتاً لهم حتى يدنوا منه كلباً فـيتشمَّمه وتظهر له فـي تشمّمه إياه (علامة يستدلّون بها على حياته أو موته) وكذلك لا تجوز عليه حيلة الثعلب المتماوت، وإن كان لا يفعل الثعلب ذلك مع الكلب بل يتماوت للغراب وغيره، وينفخ بطنه فإذا دنا منه قُبض عليه)).
«الليلة شاهدتُ أحلاماً غريبة» يقول الكلب لكلبته، ويتضاحك بدلال، ويضيف: «...إنّ سيّارة مسرعة دعستني، حتى لم يتبقّ مني إلّا قدم وحيدة وعين سليمة أرى بها عذابي”. أراد العشيق أن يكون كلامه مؤثرا، لكن كلبته الحبيبة قالت بخبث:«يقال إن هذه الأحلام مبعثها المعدة. ماذا تعشّيت بالأمس، وحدك؟”.أجاب الكلب الحبيب: «أكلتُ من قمامة فيها التفاهة لا توصف، حتى أني فقدتُ القدرة ليلتها على النباح». قالت الكلبة العاشقة، وضوء الغسق يتفتت على وجهها الجميل نجوماً ملوّنة:«هل تعلم! الكلب الذي يأكل وحده لا ينبح في أثناء النوم”.وبقيت أصداء صوتها تتردّد في الجوّ حتى تضخّم قلب الكلب العاشق من الحبّ، وظلّ ينبح، والكلبة تنبح، وكادت خاصرتا العاشقين تنقصفان نباحا...
إحدى قصص مجموعة عنوانها “قتل الأرانب”، ترجمة القاصّة المصرية فاطمة ناعوت. الطبعة الأولى في 2015 عن دار شرقيّات.