لطفية الدليمي
عنوانُ هذه المقالة هو عبارة إفتراضية لن تجدها في اي مكان ؛ فلاتتعبْ قارئي العزيز في البحث عن دولة تختصرها الأحرف الثلاثة MIT. هي ليست مختصر دولة نعرفها ؛ بل هي مختصر معهد ماساتشوستس التقني ، المؤسسة التعليمية والبحثية الأمريكية ذات الشهرة العالمية ، والتي غالباُ ماتتسيّدُ قوائم أفضل الجامعات العالمية في الكثير من الحقول البحثية.
لطالما تساءلتُ منذ سنوات بعيدة : لماذا لانعرفُ من أمريكا غير وجهها القبيح وأفاعيلها المؤذية ؟ ليس من علامة مدموغة بدمغة USA في العالم أكثر من ال CIA و المارينز مع قائمة طويلة ملحقة بهما : القاتل الاقتصادي المأجور ، والانقلابات المدعومة بالمال الأمريكي ، طائرات B52 ، فرقتا 82 و 101 المحمولتان جواً ، الهيمنة الدولارية العالمية ، الاغتيالات المعروفة المقترنة بالخسة والدناءة ،،،، إلخ. هناك بالتأكيد عناوين جميلة لمصنوعات فكرية أو سلعية امريكية ( مثل السيارات الامريكية ) ؛ لكنّها ذابت أو تلاشى تأثيرها في خضمّ أفاعيل المخابرات الأمريكية أو الجنرالات الأمريكان ، وهما بالضرورة عنوانان يرتبطان هيكلياً مع مبنى صغير يسمّى ( البيت الأبيض ) الذي يتسيّده رئيسٌ بسلطات واسعة هي بالتأكيد أعظم سلطات متاحة لرئيس على وجه الأرض. صار البيت الأبيض والبنتاغون ومقرّ ال CIA - مع تعاقب السنوات وتعاظم سطوة الآيديولوجيا - رموزاً معيارية للرأسمالية المدعومة بذراع عسكرية ضاربة تمثلُ أقبح منتجات العقل الأمريكي ، ولعلّ النفخ في رماد الحرب الروسية - الأوكرانية من بعيد تمثلُ آخر إعلانات القباحة الأمريكية التي لاتبتغي إلا زيادة سعير هذه الحرب عبر إطالة شوطها بكلّ الوسائل من مال وأسلحة. لن أتحدّث عن خبرتنا كعراقيين مع الكذب الامريكي الذي إنتهى باحتلال مشرعن قبيح ؛ فتفاصيلُ هذه القباحة باتت معروفة للجميع في مدياتها القصيرة والبعيدة.
لكن ؛ وبرغم كلّ الصخب الآيديولوجي والحروب الثقافية الباردة والناعمة ، لابدّ من التفكّر في هذا السؤال الجوهري : هل يمكن أن يستمرّ بلدٌ ما في لعب دور القاطرة العالمية للتقدّم حدّ تسمية العصر كلّه بمسمّى مشتق منه : العصر الأمريكي Pax Americana ، عبر إمتلاك ذراع عسكرية متغوّلة ومخابرات قادرة على حياكة أدقّ المؤامرات وأكثرها خبثاً ودهاء ؟ الجواب : كلا أبداً. قد تصلحُ جيوش العسكر والمخابرات في التعامل مع الخارج بطريقة تخدمُ رؤية صانعي السياسات الستراتيجية الساعين لتثبيت شروط الهيمنة العالمية بكلّ صنوفها : هيمنة علمية وتقنية وزراعية واقتصادية ، وفي مجال الطاقة ، وكذلك في المجال الثقافي ؛ لكنّ التعامل مع الداخل مختلف تماماً. هناك جملةٌ من العناصر التي لابدّ من تعظيم شأنها في داخل البلد لكي يستحقّ المجتمع أن يكون رافعة تنهضُ بعبء الدور العالمي. إنّ مجتمعاً منخوراً في أساساته لن يستطيع بالتأكيد النهوض بهذا العبء ، وسيكون كمثل البيت المبني بالصخر على أساسات رملية هشة. لابدّ من خلق مُماثلةٍ في القدرة والدور بين داخل البلاد وخارجها.
ناقش كثيرون من منظّري ستراتيجيات التنمية البشرية والاقتصادية العوامل المفضية إلى إرتقاء البلدان وعلوّ شانها وتعظيم مساهمتها في التقدّم البشري العالمي ، واتفق هؤلاء أنّ التعليم يمثلُ حجر زاوية عظمى تتقدّمُ على كلّ العناصر الأخرى ، والتعليم هنا مقصودٌ به التعليم ماقبل الجامعي والجامعي ( في مرحلة الدراسات الأولية والعليا ). من مصاديق هذه الرؤية أنك يندرُ أن تجد بلداً أحرز شوطاً عالمياً في مضمار التقدم من غير أن تكون له مؤسسات تعليمية مشهودٌ بسمعتها العالمية التي جعلت منها أيقونات حقيقية تمثلُ رافعات نهضوية شامخة ، والامثلة في هذا الميدان كثيرة : جامعتا أكسفورد وكامبردج في بريطانيا ، جامعتا غوتنغن وهايدلبرغ في ألمانيا ، جامعتا السوربون وباريس في فرنسا ، وجامعات هارفرد وبرينستون وييل وبقية جامعات النخبة الأمريكية.
من الأمور المحرّكة لشغفي - مثلما أحسبهُ سيحرّكُ مكامن شغف كثيرين مثلي - أن يقرأ المرء في تأريخ نشوء فكرة الجامعة ، وكيف تطوّرت المؤسسات التعليمية من مدارس لاهوتية لتعليم الدين والانسانيات واللغات الكلاسيكية والآداب حتى بلوغها هذا الطيف الواسع من الجامعات في عصرنا الحالي. يمكنُ في أقلّ تقديرٍ القولُ أنّ تأريخ تطوّر فكرة الجامعة إنما يمثلُ قراءة تأريخ التغيرات التي طرأت على الفكر السياسي والمجتمعي فيما يخصُّ صناعة الدولة ومؤسساتها، وليس أدلّ على هذا - كمثال واحد فحسب - من المناقشات العميقة التي طالت كافة النخب وصانعي السياسات الأمريكية ، والتعليمية منها بخاصة، عقب نجاح الاتحاد السوفييتي السابق في إطلاق أول قمر إصطناعي إلى الفضاء ، وتركزت المناقشات في حينها على التغيرات البنيوية العميقة التي يجب أن تحصل في ميدان تعليم العلوم والرياضيات في كافة مراحل التعليم.
لي مع ال MIT حكاية مثيرة بدأت عندما قرأتُ كتاب الراحل ( حنا بطاطو ) المرجعي عن تأريخ العراق ؛ فقد ورد في مقدمته أنّ الكاتب إستعان ببعض الوثائق المهمة المحفوظة في خزائن ال MIT ، وهنا تحرّك فضولي حول الموضوع : كيف لمعهدٍ تقني أن تحتوي خزائنه على وثائق سياسية تختصُّ ببلد بعيد عن أمريكا ؟ كان هذا السؤال محفزاً لي للبحث في تأريخ نشأة هذا المعهد ، واهتديتُ بعد وقت إلى كتاب رائع عنوانه :
عقل و يد : ولادةُ MIT
Mind and Hand : The Birth of MIT
ألّفه منتصف ستينيات القرن الماضي البروفسور ( جوليوس آدم ستراتون ) وهو أحد الذين شغلوا موقع رئيس هذا المعهد لمدة جاوزت عشر سنوات، وقد نشرت مطبعة المعهد نسخة محدثة من هذا الكتاب عام 2005. الكتاب ضخم ( يتجاوز الثمانمائة صفحة ) ، ورائع بكلّ المقاييس ، وهو يلقي أضواء على موضوعات واسعة منها : الأصول الاوربية في التعليم الجامعي الامريكي ، نشأة التعليم التقني في أمريكا، علاقة المعهد بجامعة هارفرد، رؤية الآباء المؤسسين للمعهد ، مسألة التمويل، الانسانيات في التعليم التقني ، المناهج الدراسية وطرق التدريس ،،،، إلخ.
أسبابٌ عديدة تحث المرء على متابعة نشاطات هذا المعهد ، منها :
أولاً : هو يوصفُ في العادة بأنه المطبخ التقني الذي تُطبَخُ فيه أغلبُ البرامج البحثية الريادية في حقول العلم والتقنية.
ثانياً : برامجه الدراسية الواسعة والمتنوعة، وسياسته التعليمية التي تؤكد على جعل نصف طلبته من الدراسات العليا، والنصف الآخر من طلبة الدراسات الجامعية الأولية.
ثالثاً : إصداراته الرائعة التي تمثلُ ختم الجودة في كلّ فروعها البحثية، ومنها مثلاُ سلسلته الرائعة المسماة ( Essential
Knowledge Series ) التي تتناول موضوعات شتى تخاطب القارئ غير المتحصل على دراسة تخصصية.
رابعاً : إنّ بعض أكفأ علمائنا حصلوا على شهاداتهم العليا من هذا المعهد ، وهم وإن كانوا قليلي العدد لكنّ مآثرهم لم تزل مشهودة ، ومنهم الدكتور الراحل عبد الجبار عبد الله.
خامساً : لطالما لعب رؤساء هذا المعهد وأساتذته أدواراً عظيمة في تأريخ العلم والتقنية والسياسة في أمريكا، أذكر من هؤلاء البروفسور فانيفار بوش Vannevar Bush الذي عُهِدَت إليه مسؤولية تنظيم الجهد العلمي والتقني الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية ، كما كان مسؤولاً عن تنظيم هذا الجهد بعد نهاية الحرب عبر عمله مستشاراً علمياً للرئيس ترومان.
* * * * *
كان يمكنُ في العراق أن يكون لنا MIT بمواصفات عراقية ، وهذا ماعملته الهند عندما أنشأت معهد التقنية الهندي IIT في عهد الراحل نهرو ، وقد تطوّر هذا المعهد حتى صار مصدراً لكفاءات هندية بمواصفات عالمية القدرة والتأثير والإمكانيات؛ الأمر الذي جعل الهند - وباستحقاق كامل - عنواناً لأحد الكتب ( أمة من العباقرة Geek Nation ) الذي صدر مترجماً عن سلسلة كتاب عالم المعرفة الكويتية.
بدل أن يفكّر مسؤولونا بجعل التعليم رافعة حقيقية للنهوض بالبلد تراهم راحوا يتسابقون على افتتاح مدارس وكليات أهلية من غير ضوابط أو حاجة حقيقية، وهم يتعاملون مع التعليم بلؤم ثنائي الأوجه : تقزيم التعليم الحكومي بطريقة قصدية وجعله مثالاً للتخلف والنكوص، وإعلاء شأن التعليم الأهلي عبر سلسلة من الإجراءات المدعمة بالقانون. وماذا يفعلون بعد هذا ؟ يستثمرون أموال التعليم الاهلي في فتح مولات جديدة أو في مجالات الاستثمار العقاري التي تفننوا فيها.
الأفعال الطيبة يصنعها أناسٌ طيبون ، وكذا الأفعال السيئة لايصنعها إلا السيئون. هذه مقايسة لايمكن اللعب عليها أو تأويلها إلى غير نتائجها المحتمة. التعليم في العراق خَرِبٌ يستهلك طاقة البلد وإمكانياته بدل أن ينهض به، ولسوف نرى في السنوات القادمات نتائج ماخرّبته عقول صدئة وضمائر منخورة ونفوسٌ لاتستطيبُ إلا شمّ رائحة المال المسروق عندما تجتمع على موائد اللئام.
جميع التعليقات 1
محمد جواد
عرب وين طنبوره وين اسالي الخزاعي و المالكي